د. منى نوال حلمى
مرت عشر سنوات، حينما بادر الرئيس السيسى، وطالب لأول مرة، بضرورة تجديد الخطاب الدينى. وفى جميع خطبه، أو أغلبها، كان حريصا على إعادة المبادرة.
لكن تدريجيا، اختفى تجديد الخطاب الدينى «فى ظروف غامضة».
بمتابعة الأخبار اليومية، اتضح أن المؤسسات الدينية، لا تتوقف عن بناء وتجديد وترميم المساجد. عدد المساجد فى مصر، وصل إلى ١٩٤ .١٥١ مسجدا. فى عام ٢٠٢٠، صرحت وزارة الأوقاف، أن مصر قديما كانت معروفة بأنها بلد الألف مئذنة، والآن أصبحت بلد الـ ١٠٠٠٠٠ مئذنة وأكثر، وأنه مؤخرا قد تم إنفاق ١٧ مليار جنيه، فى بناء وتجديد ١١٠٠٠ مسجد. وأوضحت قائلة: «لا يمكن لأحد أن يشكك فى إيمان مصر وتدينها بعد الآن».
ولنأخذ فقط العاصمة «القاهرة»، فنجد أن بها ٣٤٥٠ مسجدا، و٣٨٨٤ زاوية فى منطقة الجنوب، وفى المدن الجديدة ٣٦٥ مسجدا.
تؤكد هذه الأرقام، عدة أمور، لا بد من مواجهتها:
أولا، أن المؤسسات الدينية الرسمية، تشخص قضية تجديد الخطاب الدينى، بأنها
«نقص فى الصلاة»، وبالتالى جاء العلاج بتوفير المزيد من المساجد، (بيوت الله)، وتجديد ما يحتاج إلى التجديد، والترميم. وهذا بالطبع تشخيص غير سليم. وفقا للمعلومات المتاحة، فإن مصر ٢٠١٩، بها من المساجد أكثر من السعودية وتركيا والمغرب. والشعب المصرى اكتسب صفة «التدين الفطرى»، من شدة حرصه على أداء الصلاة.
ولأن الثقافة الإسلامية السائدة، هى أن «الصلاة عماد الدين»، وأن «تارك الصلاة كافر»، فالجميع يؤدونها.
ثانيا، بناء المزيد من المساجد، وتجديدها وترميمها، ينفق الملايين والمليارات من الجنيهات، دون اعتبار أننا بلد محدود الموارد. إن صرف ١٧ مليار جنيه، مؤخرا، لترميم ١١٠٠٠ مسجد، كما هو معلن، بمنتهى الأريحية، والفخر، سلوك لا بد من إيقافه. إن بناء الإنسان المصرى، والإنسانة المصرية، أول ما يتطلبه، فى بلد فقير، مثقل بالديون، هو تحديد النسل، والتعليم الجيد، والإسكان المناسب، والعلاج الصحى الكريم، والبيئة النظيفة، وفرص العمل المتزايدة، ومؤسسات إعلامية وثقافية، توقظ الوعى المغيب، وتنبذ الفكر الذكورى، وتمويل أنشطة فنية ترفع مستوى الحس الجمالى، والمتعة الراقية، مع عمق المضمون الإنسانى. الدولة غير ملزمة أبدا، خاصة التى تستدين، وتستورد الضرورات، أن تنفق على بناء دور العبادة، وإدخال المواطنين والمواطنات الجنة. وليس لدينا فى الحكومة «وزارة الصلاة ». فالدين مسؤولية كل مواطن، ومواطنة، يحظر تدخل الدولة.
ثالثا: صرحت وزارة الأوقاف، أن معدل بناء المساجد وتجديدها: «لن يجعل أحدا يتشكك فى إيمان وتدين مصر بعد الآن». إذن تكثيف بناء المساجد وتجديدها، ليس للصلاة. ولكن لخرس الألسنة التى تشك فى إيمان، وتدين مصر. منْ الذى يشكك؟. شىء غير مفهوم.
رابعا: مقياس الدين، أو معيار الإيمان، هو «الصلاة فى أحد بيوت الله»؛ المساجد. وهذا معيار شكلى، مُفرّغ من الجوهر.
ساد هذا المعيار، مع «الصحوة» فى منتصف سبعينيات القرن الماضى، حيث تم تسليم الوطن المصرى، والشعب المصرى، «تسليم أهالى»، إلى التدين الشكلى المظهرى، القائم على الطقوس، والزى، وإقحام الدين فى الحياة، وتنجيم المشايخ، تمهيدا للحكم، وإعادة الخلافة الإسلامية.
إن أعظم إيمان، وأعمق تدين، هو العمل المستمر المخلص، من أجل سعادة البشر،
وتقليل معاناتهم النفسية، وآلامهم الجسدية، وتوفير كل وسائل العمل والتحقق والترفيه، والأمان، فى ظل مناخ عادل، يسوده العقل، والقانون المتجدد مع تجدد الحياة. ولماذا لا يصبح المستشفى الذى أجرى عملية معقدة، بأرخص التكاليف، لينقذ شابا من الموت، ويعيده إلى أمه، وأبيه، بيتا من بيوت الله؟.
فى مصر يوجد كما أسلفنا ١٩٤ .١٥١ مسجدا ٢٠٢٤. أما عدد مستشفيات مصر، فهو ١٧٩٨ مستشفى، ٦٦٢ مستشفى حكوميا، و١١٣٦ قطاع خاص، ٢٠٢٣. أهذا معقول، أو مقبول؟.
إن وجود ٥٠ مسجدا فاخرا، متلاصقا، بالميكرفونات، فى قرية صغيرة، ليس بها مستشفى واحد مجهز، وسط أحوال معيشية وبيئية، تحت خط الإنسانية، لهو مشهد مألوف فى الريف المصرى.
خامسًا: التشخيص «الكيفى» لقضية تجديد الخطاب الدينى، غائب تماما، وربما يكون غير مرغوب فيه أصلا. فالتشخيص «الكمى»، أدى إلى علاج «كمى»، وهو الزيادة العددية للمساجد. أما التشخيص «الكيفى»، وأقصد به «محتوى» الأحاديث، والدروس، والمواعظ، وخطب الجمعة، باق كما هو، يرسخ من الخطاب الدينى التقليدى، الموروث منذ مئات السنوات، والذى لم يعد يتناغم، مع متطلبات الدولة المدنية الحديثة. وهى دولة المواطنة بلا تفرقة، أو تمييز من أى نوع، وجعل الدين علاقة شخصية، لا تخرج إلى الفضاء العام، والعدالة بين النساء والرجال، وحيادية الدولة تجاه كل العقائد، عدم تديين أى قضية، ومهام الدولة هى القضاء على الفقر، والبطالة، والمرض، والجهل، والانفجار السكانى، عن طريق التوفير المستمر لفرص العمل، وإقامة المشروعات، والإكثار من المدارس والجامعات ومعامل الأبحاث، والحدائق، والأندية الرياضية الشعبية، والتوسع فى بناء المستشفيات والوحدات الصحية ومراكز العلاج، المجهزة على أعلى مستوى فى الريف والمدن، والمخصصة للفقراء، وذوى الدخول المحدودة، وذوى الاحتياجات الخاصة، إما مجانا، أو بمقابل زهيد.
رغم أننى لا أستشهد بمقولات الشيوخ، أو رجال الدين، لكن هناك مقولة لشيخ الإسلام، ابن تيمية ٢٢ يناير ١٢٦٣- ٢٦ سبتمبر ١٣٢٨، حنبلى المذهب، أعتبرها القول الفصل فى غاية الدين ومرضاة الله. يقول ابن تيمية: «إن الله يقيم وينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا يقيم ولا ينصر الدولة الظالمة، وإن كانت مؤمنة».
ويؤكد ابن خلدون ٢٧ مايو ١٣٣٢- ١٧ مارس ١٤٠٦، هذا المنحى، بمقولته: «العدل أساس المُلك».
خِتامه شِعر
■ ■ ■
أنا كل ما فقدته
لست القلب
الميت فى يقظتى
أنا القلب النابض
فى المنام
لست الجسد المرتجف
المكبل بعقارب الزمن
أنا الجسد الراقص
فوق جثة الزمن
أمام الأعين أنا
العاقلة الحكيمة الرزينة
وخلف السِتار
أنا الأكثر جنونا فى المدينة
لست كما يظنون
امرأة مكتملة الأنوثة
كاتبة تفيض بالأشعار
ابنة الشمس
والتجلى الأعظم للحقيقة
أنا بقايا من عظام الوهم
وردة لا اسم لها
ماتت ودُفنت
ليعيش زوار الحديقة
نقلا عن المصرى اليوم