عاطف بشاى

فى هذا الزمن الزاخر بالأحداث المثيرة للعواصف البغيضة والأفعال القبيحة والمظاهر المتدنية المحتشدة بالتناحر والمشاحنة والبغضاء، والضنينة بالمشاعر الطيبة والروح الوثابة إلى الارتقاء والتحضر، التواقة إلى الحب والوداد والتسامح والعطاء والانتماء.. وفى ظل اختلال معايير السلم القيمى وانهيار ركائز الأخلاق الحميدة المرعية وأصول الفضائل الإنسانية.. وتدنى مقاييس آداب السلوك الاجتماعى الراقى، وتراجع وسائل التواصل البشرى.. وشيوع التحولات الذميمة فى الشخصية المصرية التى تغيرت ملامحها السمحة الودودة والمسالمة والرحيمة التى أضحت عدوانًا عنيفًا وفظاظة كريهة.. واستعلاء بغيضًا- فى هذا الزمن الضنين تأتى الواقعة المشينة باعتداء المطرب الهضبة بالصفع لشاب حاول بإلحاح التصوير معه فى حفل زفاف ابنة منتج معروف.. نموذجًا مؤسفًا وصارخًا لما أوردناه عن تداعى معايير السلم القيمى حيث إن المطرب ساطع البريق.. بازغ الحضور تلتف حوله أعداد غفيرة من أجيال شباب متعاقبة منذ سنوات طويلة تتقافز متهللة فى شغف هستيرى فى تماهيها وتوحدها وإعجابها الوفير بأغانيه، لا يعنيها فى هذا كلمات ركيكة التعبير هزيلة المعنى سطحية المحتوى وألحان نمطية متواضعة المستوى فى تكرر بنفس الإيقاع من أغنية إلى أخرى.

 

على أن ما يثير الاستياء أكثر من الواقعة، تلك التبريرات المتهافتة التى التمس فيها أصحابها الأعذار لسلوك المعتدى، الصادرة من أهل الفن، فنانين وفنانات، أكدت إحداهن أن الازدحام والتكالب والجو الخانق والسلوك الممجوج من الشاب بتطفله وإلحاحه ومطاردته للنجم هى المسؤولة عن عدم قدرة المطرب الخلوق على السيطرة على أعصابه المرهفة، بل ربما كانت تلك التبريرات هى الدافع لمفارقة مدهشة بإسراع الهضبة ببلاغ ضد الشاب المعتدى عليه لاستفزازه ومضايقته بطريقة غير لائقة.

 

يقودنى ما سبق إلى التدثر بالحنين إلى الماضى واستلهام مآثره التى تبدو وكأنها من غرائب السلوك البشرى الذى لا يصدقه عقل، والذى صرنا بموجبه مازلنا نعيش ضحايا هلاوس الزمن الجميل مرضى بما يطلق عليه «النوستالجيا»، أو بمعنى آخر ضيوفا على هذا الزمن اللعين.

من أوراق هذا الزمن الجميل فى أثناء تصوير المخرج الكبير الراحل «عاطف سالم» لأحد أفلامه عنف عاملًا من عمال الاستديو بسبب التباطؤ فى إنجاز العمل المطلوب منه.. وأصر على طرده عقابا على إهماله.. فأسرع النجم القدير «دونجوان» السينما المصرية «رشدى أباظة» بطل الفيلم يهدئ من روع المخرج ويحثه على إبقاء العامل.. فرفض سعيه رفضًا قاطعًا.. فإذا برشدى أباظة يهدده فى غضب جامح بالانسحاب من الفيلم إذا لم يتراجع عن قراره بطرد العامل.. فرضخ فى النهاية بينما بادر رشدى أباظة بدعوة العامل وزملائه إلى مائدة طعام «فلاحى» جالسًا معهم حول الطبلية فى الاستديو.. وقد كانت تلك عادته مع كل عمال كل فيلم يقوم ببطولته.

 

أما صديقى الفنان البديع الراحل «فاروق الفيشاوى» فقد عاصرت تصوير أحد الأفلام التى كان يلعب بطولتها والمخرج يستعين فيها بعدد ضخم من المجاميع الكومبارس، فى أحد المشاهد التى قرر المخرج أن يصرفهم دون تنفيذ المشهد لأسباب فنية دون صرف مستحقاتهم بعد يوم طويل من الانتظار.. فثاروا معترضين.. فأسرع «فاروق الفيشاوى» فى تهدئتهم وتطوع بدفع كل مستحقاتهم وصرفهم داعيًا أياهم إلى وليمة فاخرة فى المساء مع ذويهم وأطفالهم فى فيلته.

 

فى زمان جميل سابق سألوا الشاعر الرومانسى الكبير «أحمد رامى» (١٨٩٢ – ١٩٨١) عن مدى حبه لكوكب الشرق أم كلثوم.. فقال لهم «إننى أحب أم كلثوم كما أحب الهرم الذى ألمسه ولم أصعده ولكنى أشعر بعظمته وشموخه»، فقد عاش متيمًا بها حتى رحيله وكانت تجربته معها تجربة فريدة تفيض أشعاره فيها بمشاعر الحب والهجر واللوعة والعذاب، وكان حبه لها من طرف واحد يعكس المدرسة الرومانسية التى كان ينتمى إليها.. وهى تعنى أن تسعة أعشار الحب فى المحب وليس المحبوب.. أو بمعنى آخر «دعينى أحبك بصرف النظر عن مشاعرك نحوى»، وقد كتب لها ١٣٧ قصيدة بالفصحى والعامية.. دون أن يتقاضى مليمًا واحدًا فلما واجهته قائلة: انت مجنون.. لأنك لا تأخذ ثمن أغانيك.. فقال لها: نعم أنا مجنون بحبك والمجانين لا يتقاضون ثمن جنونهم.. هل سمعت أن «قيس» تقاضى ثمن أشعاره فى «ليلى»؟!..

 

وسلام عليك أيها الزمن الجميل.

نقلا عن المصرى اليوم