مصطفى عبيد
يمثل الأدب شاهدا غير رسمى على الأحداث السياسية الكبرى، ومادامت ثورة يوليو 1952 حدثا استثنائيا، بدّل الأحوال، وغيّر السلوكيات، وأعاد رسم المُجتمع المصرى بسماته وقيمه، لذا، لم يكن غريبا أن يتم استدعاؤها عبر نصوص روائية مُدهشة كتاريخ موازٍ.
فقبل عام بالضبط، صدرت رواية أشرف العشماوى المعنونة بـ«السرعة القصوى صفر»، ومن العنوان تكاد الشهادة تنطق، لتؤكد أن طموحات وآمال ثوار يوليو لم تتحقق لأن سرعتها كانت صفرا، ربما لأن نوايا الثوار لم تكن صادقة، أو أن قدراتهم نفسها كانت كالعدم.
وقبل سنوات حاول إبراهيم عيسى استقراء الحدث ذاته من خلال نص آخر بعنوان «كل الشهور يوليو»، ليبعث برسالة أخرى، مفادها أن كل المشكلات والأوجاع التى رأيناها ونراها الآن منبعها ثورة يوليو، التى أعادتنا للوراء، مازلنا فى هذا الوراء.
أما هذا العام، فكُنا على موعد مع محاكمة روائية جديدة، قدمها الروائى والناقد مصطفى بيومى فى نص طويل تتجاوز صفحاته الألف، صدر عن دار غراب، بعنوان «يوميات سعد عباس». وفيه يُقدم سيرة خيالية لمثقف منعزل، ينزوى بعد وفاة زوجته، يتابع الأحداث، ويعلق عليها مدونا يومياته منذ عام 1952 وحتى وفاته سنة 1970.
ولا يجد القارئ صعوبة تذكر فى التعرف على موقف الرواية من يوليو ورجالها، إذ تكفيه مطالعة مصطلحات مثل «انقلاب»، و«الشبان الجهلاء»، «الديكتاتورية»، ليدرك نفورها.
لكن اللافت فى النص إشارات متكررة ينفرد بها بطل الرواية، ليضيف صفة خطيرة ارتبطت بثورة يوليو هى التأسلم، وهو ما لم يذهب إليه ناقد أو مؤرخ سابق.
والتأسلم هنا هو ادعاء التدين، وتوظيف الإسلام للهيمنة على الشارع، وصناعة الشعبية.
ومَن يفكر فى الطرح بتجرد يجده منطقيا رغم خطاب الثورة الذى ادعى العلمانية، وتبنى الاشتراكية.
فبعيدا عن النص، نلحظ أن نظام يوليو ضرب أول معاول هدم المدنية لصالح الإطار الدينى، بتحويل المناسبات الدينية إلى مناسبات سياسية، حيث حرص محمد نجيب، قائد الحركة الأول، على إلقاء خطاب فى ذكرى الهجرة النبوية، وآخر فى عيد الفطر، وثالث فى مولد الرسول (صلى الله عليه وسلم).
كذلك كان لافتا أن يقف ثوار يوليو على قبر حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان فى 12 فبراير 1953، ليصفه قائدهم بـ«الشهيد الذى عاش من أجل أمته» مشوشا بذلك مفهوم الأمة المصرية، ومازجا إياه بمفهوم الأمة الإسلامية!.
لكن الملاحظة الواضحة والمبكرة كانت خلو تنظيم الضباط الأحرار من أى قبطى، كما أن أول مجلس قيادة للثورة لم يضم قبطيا واحدا، ولو على سبيل تمثيل الأمة المصرية، بل إن نصف المجلس، بمن فيهم عبدالناصر، انتموا للإخوان، وحتى إن انفصلوا تنظيميا، لكنهم تأثروا بالجماعة، وتشربوا قيمها.
ورغم صدام حركة يوليو مع جماعة الإخوان سنة 1954، إلا أن خطاب السلطة وسياساتها زايدا على الجماعة فى التحدث باسم الدين، فتكررت فى خُطب القادة مصطلحات دينية من عينة «يد الله فوق أيديهم»، «الله معنا»، وغيرهما.
وصكت الدولة الجديدة، وطبقت قوانين غير مكتوبة بشأن حصص الأقباط فى المناصب العامة، وإخلاء المواقع المهمة منهم تماما، كأنها تنفى وحدة المصريين وتقر ما سبق أن طرحه حسن البنا من أن القيادة للمسلمين، وأنه لا بأس من توظيف غير المسلمين فى المهام الثانوية.
وحسبنا أن نتذكر هنا أن مصر شهدت قبيل 1952 تولى أقباط رئاسة الحكومة مثل نوبار باشا سنة 1878، وبطرس غالى سنة 1908، وتولى قبطى وزارة الحربية، وهو ما حدث مع صليب سامى (1932-1934)، وتكرار تولى الأقباط وزارة الخارجية لدرجة أن واصف غالى تولاها أربع مرات مختلفة.
تقوقع الأقباط إبان العهد الناصرى، وتمدد التأسلم رويدا بين جنبات منظمة الشباب الاشتراكى، حتى إن خيرت الشاطر كان أحد كوادر المنظمة قبل أن يتحول، مع كثيرين، إلى ساحة الإخوان علنيا عقب هزيمة يونيو 1967. ومع تولى الرئيس السادات السلطة، خلعت ثورة يوليو أقنعة التخفى عن التأسلم، لتهتف علنيا بميلاد دولة «العلم والإيمان»، وتلقب رئيس البلاد بـ «الرئيس المؤمن».
ومنذ ذلك الحين صارت سمة التأسلم مُستدعاة سياسيا كثيرا، سواء من قبل السلطة أو معارضيها، ولم يلحظ كثيرون أن البداية كانت فى 23 يوليو 1952.
والله أعلم.
نقلا عن المصرى اليوم