نيفين مسعد
بعد عدّة سنوات من المقاومة، تمكّنت أخيرًا من كسر الحاجز النفسي بيني وبين العنب الأصفر ذي الحبّات الكبيرة والملمس الخشن، وكنتُ قد ظللتُ أرفض التعامل مع هذا النوع من العنب لأنه في نظري لم يكن عنبًا. فلقد تربيتُ في طفولتي وصباي على مذاق العنب البناتي ذي الحبّات الصغيرة والملمس الناعم والطعم الذي يقطر عسلًا، وبالتالي لم يكن من السهل عليّ أن أخالف ما نشأتُ عليه وأقوم بعمل ما نسميه في العلوم الاجتماعية بتغيير المنظور paradigm shift إلى أن وجدتُ أنه ما بالأمر حيلة، وأنني ما لم أتكيّف مع حبّات العنب الكبيرة فلن آكل العنب أبدًا، ببساطة لأن الحبّات الصغيرة قلّ وجودها جدًا وربما حتى اختفَت من الأسواق، أما العنب الأحمر فلقد تشبَثتُ في مواجهته بموقفي الرافض له، أولًا لأن العنب كما اعتدتُ عليه لابد أن يكون أصفر اللون، وثانيًا لأنه يوجد له بديل آخر وإن تشبّع كلاهما بالهرمونات ومواد أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.
• • •
رغم كل ما تطمسه السنون والأحداث من ذكريات حلوة ومُرّة لازلتُ أحتفظ في ذاكرتي بمشهد مضى عليه خمسون عامًا بالضبط. ففي إطار الهنا الذي تمتعنا به نحن أوائل الثانوية العامة من سفريات وبرامج تليڤزيونية وزيارات لكبار المسئولين وهدايا أشكال وألوان في عام ١٩٧٤- قمنا بعمل زيارة لمزرعة چناكليس التي اشتهرَت بالجودة الفائقة لإنتاجها من العنب البناتي. وبعد أن قمنا بجولة لمدة ساعة في المزرعة واستمعنا لمحاضرة تفصيلية عن أصل كلمة چناكليس الذي يعود لنيكولا چناكليس أحد أشهر من اهتموا بزراعة العنب في هذه المنطقة وتحويله إلى نبيذ- خرجنا وكلُ منّا يحمل قفصًا محترمًا من العنب البناتي الأصفر الصغير الناعم، وكانت هذه الهدية لها منزلة خاصة في نفسي، لأنني أحبُ العنب- ومين فينا ما يحبّش العنب؟ ولأنني عندما دخَلتُ على أسرتي وأنا أحتضنُ قفص العنب الضخم كنت أشعر بالفخر الشديد، ففي كل مرة سوف يقدّم والداي للضيوف عنقودًا من هذا القفص الثمين سينوّهان لهم بالتأكيد بأن نيڤين هي اللي جابته، وبذلك تكون هذه هي أول مرة تأكل فيها أسرتي والجيران وأهالي الدقي الكرام من عَرَق جبيني (أي مذاكرتي) وأنا في الثامنة عشرة من عُمري، ولهذا المعنى مذاق لا يقّل حلاوة عن مذاق العنب البناتي. بعد ذلك احتفَظتُ بلقب البنت الكسّيبة لأنني حافظتُ على تفوّقي طوال سنوات دراستي الأربع في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وبالتالي ظللتُ أتقاضى مكافأة شهرية تبلغ عشرين جنيهًا وهو مبلغ كبير بمقاييس مرحلة السبعينيات، ولم أفوّت فرصة إسعاد أسرتي من هذا المبلغ بهدايا بسيطة عادة ما كانت فاكهة- من العنب وغير العنب.
• • •
المهم كما جرت مياه كثيرة من تحت جسور حياتي، تدفّقت المياه أيضًا في الجسور التي تربط بيني وبين العنب الأصفر ذي الحبّات الكبيرة والطعم المشبّع بالمواد غير الطبيعية، وتأقلمتُ معه بالتدريج. وهكذا وبينما أمّد يدي لالتقاط عنقود عنب محترم من الثلاجة قبل بضعة أيام- تدحَرجت إحدى حباته على الأرض، وتلك لو تعلمون مشكلة كبيرة. أمرني طبيب العظام بحكم بعض المشاكل المفاجئة في العامود الفقري بألا أنحني إلا للضرورة القصوى، ومع أن سقوط عنباية على الأرض لا يمثّل بالتأكيد أهمية تُذكَر في نظر الكثيرين، إلا أنه يسبّب لي نوعًا من عدم الارتياح، فأنا من ذلك الفصيل من الناس الذي لا يطيق رؤية بقايا الطعام على الأرض. كنتُ وحدي في الشقة وزوجي في الساحل الطيّب لمدة يومين، وبالتالي لا موضع لطلب مساعدة فورية من صديق، على رأي المذيع اللبناني اللامع چورچ قرداحي. نظَرتُ للعنباية التي أفلتت من العنقود وعاتبتُها قائلة: كده برضه تقعي وانتِ عارفة كويس ظروفي الصحيّة؟ هيئ هيئ هيئ... بدا لي أن العنباية تقهقه بصوتٍ عالٍ وترّد على نظرتي المعاتبة بنظرة أخرى ساخرة، وكأنها تريد بذلك أن تعاقبني لأني تعاليتُ عليها وقاطعتُها لعدّة سنوات. كظمتُ غيظي وقلتُ لها: ما العمل الآن وصيف هذا العام قد هجم علينا بشدّة حرارته، وتلك فرصة مثالية لانتعاش كل أنواع الحشرات؟ هل يرضيكِ أن أفكّ الحظر عن رقم تليفون الشركة الألمانية لمكافحة الحشرات كي تأتي لنجدتي؟ كنتُ أتصوّر أن هذه المبالغة الشديدة في كلامي كفيلة بأن تستميل العنباية وتجعلها تعتذر وتُطيّب خاطري بكلمتين، لكنها ظهرَت على حقيقتها وكانت أشّر مما توقّعتُ بكثير، فلقد شُبّه لي أنها تهّز عنقها في لامبالاة وأن حجمها آخذ في التضّخم بينما نحن نتحاور، فهل هذا يعني أنها سوف تتضخّم أكثر وأكثر خلال فترة غياب زوجي بحيث لا يعود في الحديث عن الاستعانة بالشركة الألمانية لمكافحة الحشرات أي نوعٍ من المبالغة؟. أخَذت أدندن: قولي حاجة أي حاجة .. قولي آسفة قولي عذرًا.
• • •
لا مفّر إذن من الاعتماد على النفس، انحنيتُ بتؤدة لألتقط العنباية الشريرة فإذا بها تتدحرج وتختبئ منّي أسفل الثلاجة وتقطع عليّ فرصة الإمساك بها. آلمني ظهري كما كنتُ أتوقّع ومع ذلك لم أيأس، ولم أسمح بأن تنتصر عليّ حبّة عنب، وأنا التي مررتُ في حياتي بأهوال. أمسكَتُ بالعصا الطويلة التي تستعين بها معاونتي في التقاط ما تسقطه من ثيابنا على سور شرفة الجيران فتظّل معلّقة في الهواء بين الطابقين الرابع والخامس حتى تنجح في مهمتها البهلوانية. دَفَعتُ بالعصا إلى أسفل الثلاجة وحرّكتها يمينًا ويسارًا، وفي الأخير أجبرتُ العنباية على الخروج من مخبئها. آه يا ضهري، تضافر تآكل الفقرات مع خشونتها مع هشاشة العِظام لتُحدث في داخلي ما يشبه الصدمة الكهربائية، ومع ذلك داخلني نفس الشعور بالفخر الذي تولّد عندي في صيف ١٩٧٤ وأنا أحتضن قفص العنب إياه، مع الاختلاف طبعًا في الظروف والسياق. انحنيتُ للمرة الثانية لألتقط العنباية المتمرّدة فزاد الألم…. آاااااه يا ضهري، قلتها من أعمق أعماقي .
• • •
في عُمرنا هذا تحوّلَت المهام الصغيرة إلى مهام مستحيلة، وصار التقاط حبّة عنب من على الأرض حكاية طويلة عريضة تحتاج إلى مسكّنات ومراهم وراحة لساعة أو ساعتين، لكنها سُنّة الحياة. تذكّرت المَثَل الذي كانت دائمًا تكرره أمي "أولّتنا زي آخرتنا"، فترّحمتُ عليها وأويتُ إلى الفراش.
نقلا عن الشروق