د. مجدي يوسف
في مقابل الانفتاح غير المشروط على آليات السوق التي لم تعد توف بحاجات غالبية الأهالى خاصة في المناطق المهمشة من عالمنا، نجد أن معظم هؤلاء الأهالى المرابطين في مواقعهم الإنتاجية هم الذين يقومون بمعظم الخدمات لأهالى المدن والعواصم التي تمثل مراكز للأسواق المحلية، الأمر الذي يعكس عدم توازن في العلاقة بين العواصم والأقاليم. الأولى تستهلك والثانية تنتج، والبحث العلمى والتعليم يقتصر في معظمه على الأولى، بينما ترزح الثانية في مصارعة احتياجاتها وسد رمق أسرها وأطفالها. وهو وضع لا يبشر بأى تقدم في حل مشاكل البشرية، خاصة أن آليات السوق باتت قاصرة عن إشباع احتياجات غالبية الأهالى في مجتمعاتنا البشرية في ظل الارتفاع المستمر لأسعار السلع الرئيسية، والكساد الاقتصادى الذي لا عودة منه لانتعاش حركة التجارة في الأسواق. وهو ما صار يدفع البنوك للتساهل في شروط الإقراض، مما يسفر عنه عدم قدرة المقترضين على تسديد ديونهم، وانهيار مروع لاقتصاد السوق، كما حدث في حالة بنوك الاقتراض العقارى في الولايات المتحدة في عامى 2007 و2008.
ومن المعروف أن اقتصاد السوق يخلخل الإحساس بالانتماء إلى ما يعتبره البشر أوطانا لهم، ويقوم بالمثل بتدمير أواصر التضامن المتبادل بين أفراد المجتمع الواحد، ومن ثم مختلف المجتمعات، فضلا عن أنه يسهم في انتهاك الطبيعة جريا وراء تحقيق أرباحه. من ذلك مشكلة الاحتباس الحرارى التي تهدد الأجيال القادمة بعدم توفر الغذاء الضرورى لهم، من خلال اتساع التصحر في العالم، وخروج دلتاهات عديدة من الخدمة بحكم غرقها تحت مياه البحار والمحيطات، وهو ما يدعو أطفال المدارس في أوربا إلى الخروج بالملايين في مظاهرات احتجاجية على ما ينتظر مستقبلهم من عوز وآلام. وإذا كان توفير الغذاء في أي بلد هو الأساس الذي يقوم عليه مختلف الأنشطة الإنتاجية، فإن تهديد هذا الأساس يعنى تهديدًا للنوع البشرى وللحيوانات على مختلف أنواعها.
وعلى الرغم من أن المعسكر الشرقى السابق في تجربته «الاشتراكية» قد رحل في هدوء، فإن المعسكر المقابل لا يبدو أنه مستعد لأن يفعل الشىء نفسه دون أن يدخل في حرب عالمية تروح بشعوب لا ذنب لها ولا جريرة. وهو ما نراه جليا في قلب الأوضاع في غزة، حين تعتبر مقاومة الاحتلال الصهيونى «إرهابا» يدفع ثمنه الأطفال الرضع وأمهاتهم، بينما تدعم معظم الأنظمة الغربية تلك الإبادة الجماعية بعتادها الحربى، وتقف شعوب تلك الأنظمة في وجه تلك الجريمة الشنعاء بكل قوة.
ما المخرج من هذه المتاهة إذن؟ في رأيى بالتمسك بتراث التضامن المتبادل بين أعضاء مجتمعاتنا المحلية لإشباع حاجاتهم، وتركيز البحث العلمى على تحقيق ذلك في كل وحدة إنتاجية على صعيد البلد الواحد، ومن ثم مختلف البلدان. وهو ما سبق أن ألمحنا إليه في مناسبات سابقة، بأن يقوم النظام التعليمى في كل من تلك البقاع على تطبيق ومتابعة ما توصل إلى البحث العلمى في كل منها من نتائج، هكذا يصبح التعليم امتدادًا للبحث العلمى عن أفضل الوسائل لإشباع المجتمعات المحلية. وفى ذلك يمكن لكل وحدة إنتاجية أن تنفتح على الوحدة والوحدات التالية لها في البحث عن أفضل الحلول لمشاكلها الإنتاجية، وصولا للخارج الذي تنفتح عليه للاستفادة من خبراته في المجال المطلوب، وذلك ابتداء من أرضيتها هي وليس امتدادا له مما يستلزم التقابل بين سياق الذات المجتمعية وسياق الآخر، على نحو لا يستنسخ حلوله بقدر ما يستنبط منها حلولًا مشبعة للذات بأنساقها القيمية والاجتماعية المختلفة عنه ولو تشابهت للوهلة الأولى.
هذا المقترح العام لا يخص مجتمعًا معينًا، وإن كانت مجتمعاتنا العربية أقرب للأخذ به خاصة في مرحلتها الحالية. وهو بديل سلمى لتوجه البحث العلمى والتعليم نحو إشباع مباشر لحاجات الشعوب ابتداء من تراث كل منها، وليس افتئاتا عليها من خارجها. أما إذا كان ذلك التراث في بعض الحالات صراعيًا، كما هو الحال في ألمانيا النازية، وفى الكيان الصهيونى في منطقتنا، فمآله إلى الزوال كما انحسرت النازية، ونظام الأبارتهايد في إفريقيا السمراء، والعودة لما كانت عليه فلسطين التاريخية من تعايش وتفاعل سلمى بين كافة مواطنيها من مختلف الأعراق والأديان.
نقلا عن المصري اليوم