فاطمة ناعوت
لعلَّ كثيرين لا يعرفون أن أول «حوار بين الأديان» فى التاريخ كان على أرض مصر العريقة عام 1219، وتحديدًا فى مدينة «دمياط». حين جاء القديس «فرنسيس الأسيزى» ليلتقى بالسلطان «الكامل الأيوبى»، فى حوار ثقافى ثرى ملؤه الودُّ والمحبة والرغبة الحقيقية فى التواصل الإنسانى والالتقاء على المطلق الأوحد فى الكون وهو: «الله» الواحد، الذى يتوجّه إلى وجهه جميعُ البشر، كلٌّ عبر رؤيته وإيمانه. وكان الاتفاقُ بين القائدين، المسيحى والمسلم، على مبدأ احترام قيمة «الإنسان»، الذى هو أعظمُ هدايا الله للأرض، وأكملُ معجزاته. ومنذئذ بدأت الرهبنةُ الفرنسيسكانية فى مصر والمجتمع العربى تجولُ تصنعُ خيرًا: تساعد الفقراء، وتشيّد البيوت، وتنشئ المدارس، وتساهم فى بناء المجتمع وترقية أفراده. وسارت المدارس الكاثوليكيةُ وتحت مظلتها مدارسُ الرهبان الفرنسيسكان على ذلك النهج التربوى المحترم الذى لم يتبدل ولم يتراخ منذ ثمانية قرون وحتى اليوم، فى الاهتمام الحاسم بغرس القيم الأخلاقية فى النشء، إلى جوار التعليم الأكاديمى الرفيع، إلى جوار الكشف عن المواهب وتنمية الملكات الفردية لكل طالب، فى مثلث متين لا تنفصم أضلاعُه: الأخلاق- التعليم- الفنون.

ونحن اليوم فى مدينة «أسيوط» الجميلة، التى تحوّر اسمُها من كلمة: «سَوْت»، وتعنى بالمصرية القديمة: «الحارس»، لأنها حارسةُ حدود مصر العليا: «الصعيد»، وكانت الصخرةَ المنيعة التى ساندت مدينة «طِيِبة» فى نضالها الباسل ضد الهكسوس الغُزاة. بدعوة كريمة من راعى الفنون المصرى الأب الفنان «بطرس دانيال»، سافرنا نحن الثلاثة: الفنانتان الجميلتان: «يسرا اللوزى» و«منال سلامة» وأنا، لحضور الحفل الختامى الرابع من مهرجان «180 درجة للقراءة والمواهب»، الذى دشّنه الأب «لوكاس حلمى» عام 2017، واستكمل مسيرتَه الأب «مخلص مصرى»، فى محاولة جادّة لاستخراج لآلئ المواهب من قلوب الصغار وتشجيعهم على القراءة والتثقف وصناعة الجمال، ولأن الإنسانَ يتبدّلُ حالُه (180) درجة بعدما يكتشفُ موهبته ويستثمرها، كان اسمُ المهرجان والمسابقة. قبل سبع سنوات، انطلقت مبادرة «تحدى القراءة» من مدارس الفرنسيسكان الخاصة بأسيوط، وتوجهت نحو جميع المدارس الإعدادية والثانوية وحتى الجامعة، مستهدفة النشء والشباب من عمر 12 سنة فى المرحلة الإعدادية، وحتى 25 سنة فى مرحلة الجامعة. اشترك فى العام الأول 23 متسابقًا فقط من ثلاث مدارس. وفى العام الثانى توسعّت الفكرةُ لتغدو: «تحدى القراءة والمواهب» وزاد عدد المدارس المشاركة إلى سبع مدارس وتضاعف عدد الطلاب المشاركين. وفى العام الثالث تضاعف عددُ المدارس ووصل عدد المتسابقين إلى 180 طالبةً وطالبًا، ثم استأنف المهرجانُ الجميل مشوارَه الواعد مع نهاية العام الماضى فى عامه الرابع، الذى شارك فيه 12 مدرسة و142 متسابقًا من الطلاب من مختلف المدارس الحكومية والخاصة، فاز من بينهم 37 متسابقة ومتسابقا، فى حفل فنى حاشد جميل، كنتُ فى شرف حضورة وتسليم الفائزين الجوائز ودروع التكريم وشيكات المكافآت، مع الجميلتين: «يسرا اللوزى» و«منال سلامة».

خلال الدورات الثلاث الماضية، شاركت فى المهرجان العديدُ من المدارس من بينها: (السلام- بدر- نوتردام ديزابوتر- منفلوط- الراهبات الفرنسيسكانيات- النصر بالقوصية – النهضة للبنات – المنشأة بالقوصية – النصر ببنى محمديات – الوحدة الغربية – الشهيد محمد صلاح – درية الحسينى – الشهيد أحمد فايز)، وغيرها، وحضر حفلاتِ الختام وقام بتسليم الجوائز ودروع التكريم للطلاب الفائزين نخبةٌ من رموز المجتمع المصرى من المثقفين والفنانين مثل: نيلى كريم، آسر ياسين، نهال عنبر، شيرين، الإعلامى سليمان شفيق، وغيرهم.

وهذه «أسيوط» البهيَة، قلبُ مصرَ النابضُ بالثقافة والحياة والأثر الطيب، التى تضمُّ بين ثناياها عشراتِ المناطق السياحية الفرعونية والقبطية والإسلامية، أهمُّها «الدير المحرّق»، ودير درنكة، ومسجد «الفرغل» فى أبوتيج، والمسجد الأموى وغيرها، عدا الآثار الفرعونية الخالدة. ولهذا كان لابد أن نختتم زيارتنا لأسيوط بزيارة بعض تلك الأماكن الأثرية الجميلة، ليتأكد إيمانُنا باستثنائية مصرَ حضاريًّا وأثريًّا وثقافيًّا من بين جميع دول العالم. شكرًا لكل مُربٍّ جليل ومعلم فاضل وقيادى تعليمى مثقف يؤمن بمواهب طلابه ويعمل على كشفها وتنميتها.

***

ومن نثار خواطرى

***

(موسمُ العصافير)

ينشقُّ الصخرُ

فتنفتحُ نوافذُ صغيرةٌ

وشرفاتٌ

تُطِلُّ منها وجوهُ العصافير الوليدة

غدًا

ينمو الزغبُ

على الأجسادِ النحيلة

وتكبُرُ الزغبةُ

لتغدو ريشةً

وتهفو ريشةٌ

فوق ريشةٍ

ويشتدُّ عودُ العصافير

ثم تطيرُ

تملأ الدنيا شدوًا وموسيقى

...

الصخرُ يعرفُ

كيف يُخبّئُ هداياه

سنواتٍ طويلةً

وعقودًا

انتظارًا لموسم العصافير.
نقلا عن المصري اليوم