كمال زاخر
عرضنا فى الجزء الثانى من مقال "كنيسة تنتحر'>كنيسة تنتحر" نموذجاً محزناً لكنيسة صارت أثراً بعد عين، كنيسة شمال افريقيا، ويشهد لها التاريخ أنها قدمت العديد من القديسين المفكرين المؤسسين للفكر المسيحى ومازالت كتاباتهم منهل للعطشى لفهم لاهوت التجسد، والارتواء من نبع معرفة المسيح، وقدمت جحافل من الشهداء، لكنها لم تقو على صد موجات الاستهداف البربرى الوحشى.
وساعد على تسارع انهيارها واندثارها روح التشاحن والصراع الفكرى، بين مؤمنيها، وحال كبرياء الفرقاء من قادتهم وتشامخ روحهم دون امتلاك قدرة التماسك ودرء شبح الاندثار.
ظروف شمال افريقيا لم تكن مختلفة كثيراً عن مثيلتها فى مصر، غير ان أمران صنعا الفارق، الأرض السمراء والنيل.
كانت الزراعة ـ فى مصر ـ تعتمد ري الحياض توافقا مع طبيعة النهر، ودورة الفيضان والانحسار، فكان زمن الفلاح متسع أمامه، فملأه اهازيج وتواتر الحكايات.
كانت الكنيسة حاضرة، تملأ بحكمة فراغ يوم الفلاح الطويل الحانا تترجم ايمانها، وكانت العقائد وسير القديسين محور الحكايا والأهازيج، فكان الفلاح سر بقاء الكنيسة رغم الأنواء، وكانت الليتورچيا (القداسات والتسبحة) التى يحفظها عن ظهر قلب كلمة السر، وكان فى الخلفية الذهنية الموروث الحضارى المصرى القديم بتجلياته التى تحمل اشارات تكاد تنطق بالثالوث والتجسد والفداء وان كانت غائمة وسط اساطير الأولين.
لعلنا نجد هنا احد مبررات الالحان الطويلة الموقعة على النغم الصوتى البشرى، هو فن غنائى فرعونى، رأينا طيف منه فى موكب المومياوات فى رحلة انتقالها من المتحف المصرى الى متحف الحصارات على مشارف الأهرامات ـ السبت 3 أبريل 2021 ـ والتى هزت وجدان المصريين من كل الأطياف رغم اختلاف اللغة.
كان قبول المصريون للمسيحية ناعماً وقد وجدوا فيها ما يترجم ويفسر غموض موروثهم وما وقر فى اذهانهم عبر قرون، وإن واجهوا صراعا وصداما دموياً مع كهنة المعابد الذين اهتزت الأرض تحت اقدامهم وترنحت معابدهم أمام القادم الجديد. وصارت مصالحهم وسطوتهم ومكتسباتهم فى مهب الريح.
دعونا نعبر عصر الاستشهاد الذى دشنته الامبراطورية الرومانية ضد المسيحية منذ عصورها الأولى وقد جرت فيه دماء المسيحيين انهاراً، وكانت الرهبنة احدى تجلياته، وقد اعطى مؤسسوها ظهورهم للعالم ليستكملوا سحابة الشهود التى رصدها كاتب العبرانيين واستحقوا ان يوصفوا معهم بان العالم لَمْ يَكُنِ مُسْتَحِقًّا لَهُمْ. تَائِهِينَ فِي بَرَارِيَّ وَجِبَال وَمَغَايِرَ وَشُقُوقِ الأَرْضِ.
فى تطور لاحق تقر الإمبراطورية ـ لأسباب عديدة، كثيرها سياسى ـ المسيحية ضمن الديانات المعترف بها، لتستريح الكنيسة الى حين، ثم تدخل معارك الصراعات اللاهوتية، فيما عرف بعصر المجامع فى محاولة لرأب الصدوع، ولم تكن القوميات والاثنيات والسياسة بعيدة عنها. ويجد مصطلح "الهرطقة" طريقه الى الفرقاء، ويستقر فى ادبياتهم، وتبدأ معاناة الانشقاق والانقسام والعداوات.
يجرى الزمن محملاً بتطورات عديدة لتنهار امبراطوريات وتقوم أخرى، ونعانى فى الشرق من تلك التغيرات العاصفة، ويغير الاقباط لسانهم للمرة الثانية ليستقروا عند العربية لساناً والقبطية تراثاً، وتتحول كنيستهم الى كنيسة أقلية، وتتحصن القبطية بصلوات وألحان الكنيسة ولا تجرؤ أن تطل على اصحابها خارج اسوارها، وتشهد مصر ـ بجملتها ـ وبامتداد اربعة قرون أسوأ عصورها تحت الحكم العثمانى، وتدخل الكنيسة نفقاً مظلماً، وتنكفئ على نفسها تزدرد وتجتر مخزونها اللاهوتى فى أقبية ليتورجيتها كنز لاهوتها العتيد. تحرص على تناقله خفية حتى لو انقطعت بها السبل مع فهمها. وان لم يخل الأمر من ومضات تبرق بين حين واخر.
تأتى الصحوة مرتبكة، فكل ادواتها حبيسة لغات متروكة، ما بين اليونانية التى هجرناها مبكراً وبين القبطية السماعية التى نتداولها مع الحان الكنيسة دون ان نتقنها، ولم ننجح كأقباط أن نجعلها لغة حياة، او حتى لغة ثانية.
كانت بدايات الصحوة مع ترجمة ما عند اخوتنا فى كنائس المشرق، او كنائس الغرب، بمجهودات فردية لعل ابرزها ما قام به الاستاذ حافظ داوود (القمص مرقس داوود كاهن كنيسة مار مرقس بشبرا)، وكانت أهم ترجماته كتب شرح اسفار الكتاب المقدس للكاتب الإنجليزى فريدريك براذرتون ماير، (ف. ب . ماير)، وكذلك القس الانجليكانى ماثيو هنرى (متى هنرى)، والعديد من المؤلفات عن القداسات الاثيوبية والموضوعات الروحية، وترجم كتاب "تجسد الكلمة" للقديس اثناسيوس الرسولى، عن الترجمة الانجليزية، ويرجع له الفضل فى بعث الاهتمام بالكتاب المقدس بين الأجيال الواعدة للأقباط فى جيله.
ثم الاستاذ حبيب جرجس، مؤسس منظومة مدارس الأحد. واليه يعود الفضل فى دعم المدرسة الاكليريكية التى تخرج فيها ثم صار مدرسا بها فناظرا لها فى حبرية البابا كيرلس الخامس وبدعمه، وعكف على دعم المكتبة القبطية بالكتب اللاهوتية وإن تعددت مصادرها، بين الروم الارثوذكس والكنيسة الكاثوليكية، ربما باعتبارهما كنائس تقليدية تشترك معنا فى نسق الاسرار المقدسة وابرزها الكهنوت. وتتلمذ على الاستاذ حبيب جرجس كل رواد النهضة الحديثة، وقيض لكثيرهم أن يصيروا أهم القيادات الاكليروسية القبطية الارثوذكسية وفى مقدمتهم قداسة البابا شنودة الثالث.
شهدت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تحولان، فى النصف الثانى من القرن العشرين؛ الأول هو استئثار واستحواذ الإكليروس منفردين بادارة الكنيسة فى مضادة لطبيعتها التى كانت تسير على قدمين، متوازنين، الإكليروس والأراخنة، والثانى استقدام الرهبان وبثهم فى كل مفاصل الكنيسة، شخوصاً وفكراً، بغطاء اكليروسى، وكان لهذا تداعياته السلبية على الذهنية القبطية، لاختلاف النهج الرهبانى عن نظيره فى الحياة العامة، لاختلاف طبيعة ونذور كليهما، خاصة وأن هذا الأمر استقر لأكثر من نصف القرن ومازال متبعاً حتى اللحظة.
مع التأكيد على اتفاقهما - نظرياً - فى الغاية النهائية لهما؛ معرفة شخص ربنا يسوع المسيح وتأكيد الشركة معه وفيه، لكن كل بأدواته.
ويبقى السؤال : وما علاقة كل هذا بعنوان المقال؟
هذا ما سنختتم به طرحنا فى جزء رابع وأخير.