خالد منتصر

نداء إلى أى فرد يعتبر نفسه مثقفًا، إذا كنت قد قرأت جميع مسرحيات شكسبير وروايات ديستويفسكى ونجيب محفوظ وقصص تشيكوف ويوسف إدريس وحفظت كل أشعار المتنبى وطاغور وإليوت وجوته، فأنت ما زلت، للأسف، نصف مثقف بلغة هذا العصر، لأنك تجاهلت نظرية التطور، وإذا لم تضم مكتبتك كتاب «أصل الأنواع» لداروين، فمكتبتك ما زالت مكتبة فقيرة تعانى من الجفاف والأنيميا حتى ولو اكتظت رفوفها بمئات الآلاف من المجلدات!

 

إنه الكتاب الصدمة، ثورة ما بين غلافين، ثورة كان سلاحها الحبر والورق، والأهم سلاح الفكر المتحرر من البديهيات المسبقة، الإبداع الذى لا يعترف بصدق الفكرة إلا من خلال عدد الأدلة العقلية التى تؤيدها وتثبتها وليس من خلال عدد البشر الذين يعتنقونها، سلاح الجسارة والجرأة والاقتحام من عبقرى اسمه تشارلز داروين.

 

فى ٢٤ نوفمبر ١٨٥٩، صدر كتاب «أصل الأنواع»، عنوان الكتاب صعب ومعقد «أصل الأنواع، نشأة الأنواع الحية عن طريق الانتقاء الطبيعى أو الاحتفاظ بالأعراق المفضلة أثناء الكفاح من أجل الحياة»!! عنوان طويل اضطر داروين إلى كتابته بالتفصيل وكأنه يعتذر بتوضيح فكرته على الغلاف عما سيُحدثه من صدمة لعقول القراء. حجم الكتاب ضخم ٥١٦ صفحة، ورغم العنوان الطويل والحجم الضخم نفد الكتاب من أول يوم، ١٢٥٠ نسخة تخاطفتها الأيدى فاختفى من المكتبات. الوحيد الذى لم يفرح بهذا الانتشار كان داروين نفسه، فقد ظل أكثر من عشرين سنة يفكر ويتراجع ويتريث ويقدم رجلًا ويؤخر الأخرى ويسأل نفسه: هل أقدم على هذه المغامرة، هل أنشر فكرتى الصادمة وأخرج عن النص وأغرد خارج السرب وأشرد عن القطيع، وأجمع دلائلها وشواهدها فى كتاب؟ كان داروين طيلة هذه الأعوام يعانى من الأرق وآلام المعدة والصداع المزمن فى بيته الريفى المنعزل فى «كنت»، كان يسأل نفسه: «هل تستحق فكرتى كل هذا العناء وهذه المشقة؟».. تركت دراسة الطب، ثم تركت دراسة اللاهوت، ثم ذهبت فى مغامرة بحرية وعمرى ٢٢ سنة لمدة خمس سنوات على متن سفينة «البيجل»، يدفعنى الفضول وتستهوينى الأجنحة والمناقير والقواقع والأصداف.

 

لم يكن داروين يعلم أنه يصنع تاريخًا جديدًا من خلال هذه المناقير والأجنحة والحفريات!! علمته دراسة الأحياء والحفريات أنه مهما كانت قوة العواصف والأعاصير فإن الكون لا بد أن يحتفظ بجزء من الحقيقة ولو على سبيل الذكرى ولو بعد ملايين السنين. كان واثقًا، رغم عاصفة الهجوم والسخرية، من أن التاريخ سينصفه، وأن الكنيسة ستعتذر له، وأن علم البيولوجيا الجديد سيقوم على أكتافه وسيولد من جديد من رحم أفكاره الثورية، وأن كل مريض زُرع له كبد أو قلب أو تم إنقاذه بدواء أو جراحة مدين لفكرة التطور العبقرية التى أهداها لكون يحارب الجديد، ويعاند التطور، وينتشى ويستلذ بالاستقرار، والمدهش أنه كتب بجانب شجرة الحياة التى اقترحها ورسمها فى كتابه «أنا أعتقد»، وكانت هذه العبارة هى كلمة السر وشفرة الخلود فى منهج التفكير العلمى، فهو لم يمارس الكهنوت ويقول أنا متأكد من خلال نصوصى المقدسة، ولكنه مارس الاعتقاد الذى يحتمل الصح والخطأ وليس الحرام والحلال، وكان يردد: «إننى لأرى على وجه اليقين أن كثيرًا جدًا من كتابى سيسقط، ولكنى آمل أن يظل العمل فى مجمله باقيًا على مرِّ الزمن»، كان يعرف أن فكرته ما زالت تحتاج إلى كثير من التفاصيل لملء فجواتها.. والمدهش أن العلم ما زال فى كل لحظة يهدى داروين مزيدًا من التفاصيل التى تؤيد نظريته وتجعل منها حقيقة علمية فى منزلة كروية الأرض ولها نفس المصداقية.

 

 

خالد منتصر

لماذا تغضبكم نظرية داروين، ولماذا هذه الاتهامات بالإلحاد وغيرها من التهم الجاهزة لمن هو مقتنع بتلك النظرية التى تخطت حدود التخمينات وصارت حقيقة دامغة لا تحتاج شهادة من أحد؟!، الإجابة هى إذا كانت مقولة إن الأرض ليست مركز الكون، بل هى مجرد كوكب تابع لنجم من ملايين النجوم التى تضمها مجرة من ضمن ملايين المجرات التى تسبح فى الكون، قد أدت إلى اضطهاد كوبرنيكوس وحرق الراهب برونو وسجن جاليليو كسيحًا أعمى، فما هو المصير الذى سينتظر من قال إن الإنسان مجرد حلقة فى سلسلة التطور معارضًا نظرية الخلق المستقل المكتوبة فى التوراة، جملة اعتراضية لا أعرف لماذا تغضبون ممن يختلف مع نظرة التوراة، وكان الأجدى أن تطالبوا بإعادة النظر فى التفاسير القرآنية التى اعتمدت على حكايات التوراة فى مسألة الخلق بالأساس!، المهم أنها إهانة من داروين للإنسان محور الكون والأهم من كل الكواكب والمجرات والنجوم التى خلقت من أجله هو فقط، فكيف سيكون الضفدع والفأر والسحلية والخفاش من شجرة العائلة؟ وكيف سيكون القرد من أبناء عمومتى؟!، هذا السؤال الاستنكارى هو الذى جعل داروين يؤجل نشر كتابه أكثر من عشرين عامًا، جر الإنسان من صفوف الملائكة لوضعه فى طابور الوحوش والقرود سيصدم الإنسان ويخدش غروره، ولكن ما شاهده داروين فى رحلة سفينة البيجل جعله على يقين بأن التطور حقيقة دامغة، والدلائل التى دونها فى كتاب «أصل الأنواع» هى شفرة الفهم الجديد لسر الحياة ونشوء الكون وتطور الكائنات.

 

كانت جزر الجالاباجوس التى وصلت إليها سفينة البيجل هى أجمل معمل تطور فى العالم، جزر معزولة فى المحيط الهادى على بعد ٦٥٠ ميلًا من السواحل الغربية للإكوادور، وجد فيها داروين علامات استفهام استفزت عقله الفضولى، أربعة عشر نوعًا من العصافير بمناقير مختلفة، منها المناسب للبذور الصغيرة ومنها المناسب للبذور الكبيرة ومنها ما يلتقط الحشرات.. إلخ، وجد حيوانات متفردة ومميزة فى هذه المنطقة المعزولة التى لم تصل إليها بالقطع سفينة نوح، بل المدهش أنه فى كل جزيرة حيوان مختلف عن الجزيرة الأخرى، فعلى سبيل المثال فى الجزر التى لا توجد بها إلا النباتات المرتفعة كانت السلحفاة تمتلك فتحة فوق الرقبة فى ظهرها الصلب تمكنها من قطف أوراق تلك النباتات.

 

وكان السؤال: كيف وصلت تلك الحيوانات إلى تلك الجزر المهجورة؟! وجد أصداف بحر فى الجبال مما أثار سؤالًا حول ماضى هذه الجبال التى كانت غارقة فى البحر! وجد هيكلًا ضخمًا لآكل نمل قديم يكاد يكون متطابقًا مع آكل النمل الحديث صغير الحجم، رأى قرب القطب الجنوبى بشرًا يسيرون عراة فى الصقيع بدون معاناة، وجد فى جالاباجوس سلوكيات غير مألوفة مثل ثعالب أليفة وإوز لا يطير وطيور لا تخشى الإنسان!!، حاول سكان تلك البلاد تقديم تفسيرات أسطورية ميسورة جاهزة لداروين، ولكنه كان مريضًا بداء الفضول العلمى وعدم قبول الأفكار الجاهزة وتصديقها لمجرد أنها أفكار قديمة مقدسة، فحين وجد عظامًا ضخمة فى سهول أمريكا الجنوبية وحاول إيجاد علاقة بينها وبين حيوانات الزمن الحالى صغيرة الحجم، قال له السكان هناك إن عظام الحفريات تكبر بعد موتها وإن الأنهار تحول العظام الصغيرة إلى ضخمة!!، سأل نفسه: لماذا لا أجد حفريات لثدييات، ومنها الإنسان فى الطبقة الأقدم التى وجدت فيها حفريات زواحف؟ لماذا هذا الفصل الحاد فى طبقات الحفريات إذا كانت كل تلك الحيوانات قد خلقت فى نفس الزمن؟ لماذا الشبه بين جناح الطيور وأصابع الثدييات؟ لماذا تغير الحصان من ذى الأصابع الخمسة إلى صاحب الحافر؟ لماذا يمتلك الثعبان أرجلًا ضامرة ولماذا يمتلك الإنسان زائدة دودية كل وظيفتها الحالية أن تنفجر وتودى بحياة صاحبها إذا لم يسعف فورًا!!

 

تجمعت الأدلة والشواهد على تأكيد أكبر ثورة فكرية فى التاريخ، ثورة التطور التى تحولت من نظرية إلى فلسفة، لكن هل اخترعها داروين من العدم؟

 

كل النظريات العلمية الحديثة، مثل نظرية النسبية ونظرية الكم، عندما لا نفهمها يكون رد فعلنا الطبيعى هو مزيد من التساؤل والمعرفة حتى نفهمها أكثر، إلا نظرية التطور، فعدم فهمها لا يقود إلى السؤال وطلب المزيد من التفاصيل ولكنه يقود فورًا إلى الكراهية والرفض والهجوم!!، وهذا عرض وسلوك غريب أرجو أن نشفى منه بمحاولة فهم هذه النظرية بلا رفض مسبق أو كراهية جاهزة أو تربص مزمن.

 

نظرية التطور ببساطة هى تغير وليست ارتقاء، فالكائنات الحالية ليست بالضرورة أرقى ولكنها الأكثر ملاءمة للظروف التى وجدت فيها، أما كلمة السر الأولى فى فهم نظرية التطور فهى التغير، وكلمة السر الثانية هى الإنتاج المتزايد.. وقد لمعت هذه الفكرة فى ذهن داروين عندما قرأ ما كتبه مالتوس عن تزايد السكان بمتوالية هندسية أسرع من تزايد الغذاء بمتوالية عددية، وهذا يؤدى إلى كلمة السر الثالثة وهى تنازع البقاء، ثم الرابعة الانتخاب الطبيعى، ولكن لا بد أن نفهم أن الانتخاب الطبيعى لا يعنى دائمًا انتخاب الأقوى صاحب المخلب والناب فقط، ولكنه يعنى بالأساس أن الطبيعة تنتخب الأكثر ملاءمة للمناخ والظروف المحيطة كما ذكرنا من قبل، فالسحلية ذات اللون المطابق لما حولها من ورق شجر أو رمال ستتلاءم أكثر وتعيش أكثر وتنقل صفاتها أفضل، وهى هنا ليست أقوى بمعنى العضلات المفتولة ولكن بمعنى المرونة والمواءمة مع محيطها، وكذلك الطاووس ذو الألوان الزاهية والجذاب جنسيًا، هو الأقوى والأفضل من هذه الزاوية، ولكن المشكلة فى صعوبة تقبلنا لنظرية التطور وتفسيرها لتغير الكائنات هى أن عقولنا لا تستطيع استيعاب تحولات على مدى ملايين بل بلايين السنين، لأن هذا يحتاج إلى قوة خيال تفلت من أسر ووهم أن حياتنا عمرها ستة آلاف عام فقط!، والمدهش أنه حتى فى الستة آلاف عام تلك، حدثت تغيرات بسيطة فى بعض الكائنات تجعلنا نستطيع تقبل وتخيل التغيرات الهائلة التى لا نصدق أنها حدثت والتى حكاها لنا داروين فى كتابه البديع «أصل الأنواع»، سأحكى لكم بعض هذه التغيرات البسيطة التى رصدها العلماء فى فترة زمنية بسيطة نسبيًا، أشهرها الخطأ الذى حدث فى هيموجلوبين دم سكان المناطق الموبوءة بالملاريا وجعل منه هيموجلوبين مختلفًا يسميه العلماء هيموجلوبين إس المنجلى، والمدهش أنه هيموجلوبين مقاوم لمرض الملاريا وهذا ما جعله يعيش ويسيطر من جيل لآخر، وأيضًا حكاية الفراشات الرمادية الفاتحة الشهيرة التى تحول لونها إلى الأسود القاتم بعد عصر الفحم الذى غطى البيوت الإنجليزية بالسواد وأتاح للفراشات القاتمة فقط أن تعيش وتختفى من الأعداء.. إنها مرونة الانتخاب الطبيعى فى زمن بسيط يقاس بآلاف السنين فما بالك ببلايين السنين! أعتقد أن هذه البلايين من السنوات ليست قادرة فقط على تحويل لون الفراشة ولكنها قادرة على تحويل الفراشة نفسها لكائن آخر مختلف!

 

أعتقد أنه ليس من قبيل المصادفة أن يكون جد تشارلز داروين لأبيه طبيبًا ومخترعًا، وجده لأمه فنان خزف شهيرًا، فلا يمكن أن يكتشف تلك النظرية إلا مزيج من عالم وفنان، عنده صرامة ودقة المنهج العلمى، وتحليق وخيال الإبداع الفنى، وعندما صرخ العالم هكسلى تعليقًا على نظرية داروين البسيطة: «كم نحن أغبياء لأننا لم نفكر فى ذلك من قبل!!»، كان محقًا، فقد كانت إرهاصات ومقدمات تلك النظرية مطروحة ومتناثرة من قبل، ولكنها كانت مثل لعبة «البازل» تحتاج إلى عبقرى مثل داروين، يأتى ليجمع شتاتها ويحل ألغازها ويفك شفرتها، ثم يأتى العلم الحديث لينفخ الروح أكثر فى نظريته ويمنحها قبلة الحياة.

 

هذا شريط سينمائى سريع ومجموعة كادرات متناثرة لحياة داروين الجادة فى طلب العلم الحقيقى، العلم الذى يغير العالم ويغير الإنسان.

 

خبطات سريعة وقوية على باب بيت داروين من ساعى البريد الذى يحمل طردًا. تذهب الزوجة لتفتح الباب فرحانة يقتلها الفضول، هل هى باقة ورد أم شنطة ملابس أم طبق شوكولاتة؟ المفاجأة التى كان يترقبها داروين كانت نصف أوقية من براز الجراد الإفريقى كان قد طلبها من أحد الأصدقاء، وكانت سعادته بلا حدود عندما تمكن من فصل سبع نباتات من تلك العيّنة الإفريقية!

 

تحمّل داروين اتهامات من حوله له بالجنون وبأنه يعيش فى عالم الوهم والشطحات، ولكنه كان يعرف أنه يصنع تاريخًا جديدًا، وكان متأكدًا من أن التقدم لا يُصنع إلا بمثل تلك الشطحات الجنونية، عندما سُئل البستانى الذى يعمل فى حديقة داروين عن صحته قال بأسى: «يا لتعاسته، إنه يقف محملقًا فى زهرة صفراء بالساعات، ولعل صحته تتحسن لو أنه وجد شيئًا مفيدًا أفضل ليقوم به»، ووصف ابن داروين أباه قائلًا: «كان يرى فى كل بذرة شيطانًا صغيرًا يحاول أن يضلله بأن يقفز من هنا إلى هناك مختفيًا فى هذه الكومة أو تلك، مما جعل عمله أشبه ما يكون بلعبة مثيرة»!

 

حقًا مارس داروين عمله وكأنه يلعب لعبة مثيرة مشوقة، ومات داروين تاركًا عدة أسئلة محيرة كان واثقًا أنها لن تُدفن معه، ترك إجابتها لمن يأتى بعده من العلماء، مات ولم يجب عن سؤال: كيف تحافظ الكائنات الحية على صفاتها الجيدة وتراكمها من جيل إلى جيل؟ جاء «مندل» ليجيب عن هذا السؤال بأبحاثه فى علم الوراثة، أما سؤال: كيف تحدث الطفرة الوراثية التى تنتخبها الطبيعة إذا كانت فى صالح الكائن الحى؟ فقد أجاب عنه العالمان «واطسون وكريك» فى منتصف القرن العشرين عندما اكتشفا شفرة الحياة الـ«دى إن إيه»، وتوالت دلائل تأكيد نظرية داروين الواحد تلو الآخر، فالشمبانزى يتشابه كتابه الوراثى مع كتاب الإنسان فى ٩٨٪ من مادته!

 

ولو فتحت موقع «جوجل» وبحثت عن صورة الأركيوبتركس، فستجد أنه الحلقة المفقودة بين الطيور والزواحف. انظر إلى ريشه وجناحيه التى تشابه الطيور ثم لاحظ أسنان المنقار وذيله العظمى والأصابع التى تنتهى بمخالب فى الجناحين والتى تشترك مع الزواحف!

 

أما جنين الإنسان والثدييات عمومًا فهو دليل عبقرى يلخص نظرية التطور، فتراه فى مرحلة بخياشيم كالأسماك، وبذيل كالزواحف. ولو لاحظت كيفية التخلص من الفضلات النيتروجينية فستجد أنها توحد الكائنات، الأسماك تتخلص من النشادر مباشرة فى الماء، أما الإنسان فيحولها إلى بولينا حتى تذوب فى الماء وتطردها الكلى! ولو نظرنا إلى دمنا سنجد أنه يعوضنا عن هجرتنا من البحار منذ ٢٠٠٠ مليون سنة، فنجد أن تركيب الدم ومعادنه من صوديوم وماغنيسيوم يعوضنا عن مياه البحار التى كنا نعيش فيها، أى أن البحر أصبح بداخلنا بعد أن كان خارجنا!

 

عندما تهكم والد داروين على ابنه ووصفه بالبليد الذى سيجلب العار على أسرته لأنه يطارد الفئران والخنافس طيلة النهار، لم يكن يعلم أن ابنه العبقرى سيُدفن إلى جانب نيوتن، وعندما كان الأب الطبيب البدين ذو الثلاثمائة رطل يصحب ابنه ويستخدمه كعكاز فى زياراته المنزلية، لم يكن يعلم أن العالم كله سيستند على عكاز داروين ليفلت من أسْر التخلف، ويخرج من كهف الجهل والخوف والخرافة.

 

يا من تطلبون شواهد على صحة نظرية داروين، سأقدم لكم من ضمن ملايين الشواهد العلمية المدروسة، شواهد من أجسادنا تحتاج فقط نظرة من فضيلتكم، شواهد استخدم فيها داروين العين والعقل والملاحظة والمشاهدة والمقارنة، لم يعتمد على العنعنة الشفوية التى يريدها البعض بديلًا للعلم التجريبى، سأحكى لفضيلتك مجرد إشارات لهذه الدلائل.

 

فعلت نظرية التطور مثل أبطال قصص «أجاثا كريستى» الذين يتركون آثار جريمتهم متعمدين فى مسرح الجريمة.. ترك التطور بصماته على جسد الإنسان آخر درجة سلم صعود الكائنات، ولكن الفرق بين التطور وأبطال القصص البوليسية أن التطور لم يكن جريمة، وأن هذه البصمات لم تترك عمدًا، بل هى علامات مصاحبة لرحلة التطور التى استمرت بلايين السنين، وأكدت أن الإنسان لم يخلق مستقلًا منذ الزمن الغابر ببصمات بقايا التطور، لأن السؤال الذى سيفرض لو لم نكن نتطور هو: لماذا وجدت أصلًا مثل هذه البقايا الضامرة فى أجسادنا؟

 

نتعجب أحيانًا حين يحرك أحدنا أذنيه، ونعتبر ذلك من قبيل الألعاب البهلوانية، وأنها بقايا عضلات الأذن الضامرة التى يحركها الحيوان كرادار وبرج مراقبة تحذره من الأعداء، وهناك الزائدة الدودية التى كانت تساعدنا على هضم السيلولوز وقت أن كنا نأكل الأعشاب.. قارن حجمها الصغير نسبيًا عندنا وفى الأرانب لتلاحظ الفرق الهائل فى الحجم.

 

فى عام ١٨٠٠، اكتشف العالم جاكوبسون منطقة فى الأنف سميت باسمه «جهاز جاكوبسون»، وظيفتها عند الثدييات تحديد الشريك الجنسى من خلال شم مادة كيميائية تسمى الفيرمونات، وهى رسالة التواصل الجنسى فى الحيوانات، وأعتقد أن الإنسان الآن استغنى عن تلك الفيرمونات بالتواصل اللغوى وغرف الشات والعطور الباريسية!

 

ومن تواصل المتعة لتواصل الخوف وقشعريرة الفزع التى يستعملها الحيوان منتصب الشعر لحجز الهواء وتدفئته وأيضًا منح جسده شكلًا مهيبًا يفزع الأعداء لا يحتاجه البشر الذين احتفظوا ببقايا قشعريرة الذكرى، فعندهم الآن المسدس ولديهم وسائل إرهابية أخرى أشد قسوة.

 

عندما كنا نتأرجح على الأشجار، كنا نحتاج الذيل، أما الآن فنحن ننظر فقط إلى هذه الأشجار أو نقتلعها!

 

بقيت لدينا ذكرى، هى العصعص أو ما نترجمه بعظمة الذنب، وهو بقايا الذيل الذى يخدش غرورنا الإنسانى حتى هذه اللحظة، ومن ضمن ذكريات أيام تسلق الأشجار عضلة تسمى البلانتاريس موجودة وضامرة فى أقدامنا، وأحيانًا نجد أناسًا يجيدون استعمالها ويستطيعون الكتابة بقلم موضوع بين أصابع القدم، ولكننا نقدمهم على الشاشات التليفزيونية كمعجزة بشرية وفلتة إنسانية! وأعتقد أن أحفادنا بعد مليون سنة سينظرون إلى أصبع قدمنا الصغير المنقرض نظرة الاندهاش نفسها.

 

لا تندهش عندما تشاهد جفنًا ثالثًا فى عيون الزواحف أو القطط، فأنت لديك هذا الجفن ولكنه ضامر، وانظر فى المرآة عند زاوية الأنف ستجد هذا الجفن ضامرًا يترحم على عبقرية داروين! وأعتقد أننا، كمصريين، نحتاج هذا الجفن لحمايتنا من السحابة السوداء، فهو للأسف ضمر عند البشر الذين لم يعودوا فى حاجة لمكنسة جلدية تنظف وتوزع الدموع على القرنية، ولكننا للأسف نتعرض فى مصر لسحابة دخان وأتربة نتمنى معها ألا نتطور ونرتد ثانية لمرحلة السحالى والقطط!

 

 

هذه الهدايا التذكارية من السحالى والقرود والأرانب التى حفظناها فى متاحف أجسادنا تجبرنا على ألا نشتم أحدًا ونصفه بالحيوان، فتلك الحيوانات هى أبناء عمومتنا الأعزاء!.

نقلا عن حرف ديجيتال