عاطف بشاى

تتوالى السنوات تباعًا وتتغير الحكومات ورؤساء الوزارات ويتعدد وزراء التربية والتعليم فى بلادنا، وتبقى المشكلة بل تتفاقم وتتصاعد على كافة الأصعدة والمستويات فى تدهور مؤسف وتداع مؤلم يعكس خطرًا داهمًا على مستقبل منظومة هى الأهم والأكثر تأثيرًا فى مسيرة الوطن، فبناء الإنسان يبنى أوطانا، ولا تُبنى أوطان يدمرها إنسان جاهل.

 

وبمناسبة التشكيل الوزارى الجديد.. وتولى وزير جديد للتربية والتعليم مسؤولياته، نتمنى أن تؤتى ثمارًا ملموسة تعالج آفة متراكمة وعورات فادحة وتراجعًا معيبًا تناولناها مرارًا وتكرارًا بالبحث والرصد دون أن نجد استجابة فعالة أو ردود أفعال مبشرة.

 

أتذكر أنه عند عرض فيلم «محاكمة على بابا» التلفزيونى الذى كتبت له السيناريو والحوار عن قصة قصيرة لـ«أحمد رجب» وإخراج «إبراهيم الشقنقيريى» فى الثمانينيات من القرن الماضى، بطولة «يحيى الفخرانى» و«إسعاد يونس»، ناقشت من خلاله فى إطار كوميدى مشاكل التعليم من خلال أحداث تبدأ بعجز مطلقة تعمل أستاذة لعلم النفس بكلية الآداب فى حل مشاكل أطفالها الثلاثة المختلفة فتستعين بطليقها ليساعدها فى تقويم سلوكهم حتى تستقيم تربيتهم.. وتخبره أن الابن الأكبر يجاهر بوقاحة فى كراهية ورفض أشعار فطاحل الشعراء العرب، وخلافه مع المدرس بشأنهم، فهو يرى أن «المتنبى» و«البحترى» و«أبو تمام» شعراء منافقون يقرضون قصائد الثناء والمديح للملوك والأمراء طلبًا للمال، فإذا لم يجزل لهم العطاء انقلبوا شتامين يهجونهم.. ويصيح فى غضب: إنهم يعلموننا أن النفاق هو الوسيلة الناجحة فى جلب المال والعطايا.. وأنه حينما عبر عن رأيه هذا للمعلم وبّخه ساخرًا منه مرددًا: من أنت أيها التافه المغرور الذى لا يعجبه أشعار فحول الشعراء العرب؟، ويطرده من الفصل متوعدًا إياه بالرسوب فى المادة عقابًا له على تطاوله.

 

أما الطفل الأصغر فقد طردته مشرفة الحضانة وحتمت ألا يعود إلا بصحبة ولى أمره والسبب أنها حينما كانت تحكى للأطفال حكاية «على بابا والأربعين حرامى» سألها:

- هل استولى على بابا على كنوز اللصوص؟!

- أجل

- ألم يسرق اللصوص هذه الكنوز من الناس؟

- نعم.. هذا صحيح

- إذًا فعلى بابا لص لأنه استولى عليها لنفسه ولم يسلمها إلى الشرطة

- كلا «على بابا» رجل طيب

- بل هو حرامى..

وانتهى الحوار بطرد الطفل من الروضة.

والمغزى الواضح الذى تطرحه القصة ومن ثم السيناريو أن المسلمات العتيقة القديمة تظل راسخة لا تتغير وتلغى إعمال العقل والتفكير، فنحن نتوارثها جيلًا بعد جيل رغم تهافت منطقها.. لقد سعى المعلم فى المثال الأول الخاص برفض التلميذ حفظ قصائد بعض الشعراء الأوائل– حينما زجره وعاقبه- إلى الإطاحة بفضيلة حرية التعبير وتنمية التفكير النقدى والشجاعة الحميدة فى الاختلاف القائم على إعمال العقل.. كما سعت مشرفة الحضانة فى السخرية الذميمة من ذكاء طفل نسف إحدى المسلمات البالية واستخدام المنطق فى الحكم على الأمور والإصرار على فرض رأيه التى عجزت المشرفة عن إقناعه بعكسه.

 

المهم أنى فرحت فرحة طاغية بنجاح الفيلم وردود الأفعال الجيدة والمؤيدة من النقاد والمشاهدين فى وزارة التربية والتعليم، وإعلانهم عن مؤتمر موسع لمناقشة سلبيات وعثرات منظومة التعليم.. وعقد المؤتمر بالفعل.. لكن للأسف لم تتغير الأمور وظلت الآفات والعورات قائمة حتى الآن بل تفاقمت بعنف.

 

تكمن أهم آفة من آفات التعليم، بناء على ما سبق سرده، فى التلقين القائم على المحافظة القدسية المرتبطة بالحفظ والنقل والصم واجترار سطور الكتب.. وبناء عليه تتوالد أجيال أولئك الذين يجتازون مرحلة الثانوية العامة ويلتحقون بالجامعات والمعاهد ممن تربوا على السقوط فى مستنقع كراهية التفكير ونبذ المعرفة وازدراء الثقافة والوعى وإقصاء العقل باعتباره من المحرمات.

 

هذا ويحرص المسؤولون فى الوزارة على تصدر العناوين المبهجة التى تزف البشرى للطلبة وأولياء الأمور بأن النجاح المبهر ينتظرهم كنتيجة حتمية لسهولة الامتحانات.. فتحمل المانشيتات– كما هو معتاد كل عام– التأكيد بأن أسئلة الامتحانات ستظل فى مستوى الطالب المتوسط، فهى تكره الطلبة المتفوقين وتسعى لمساواة الأغبياء ومتواضعى المستوى والفاشلين بهم.

ومن هنا تفقد شهادة الثانوية العامة- كمسابقة يتصدرها النابهون والأذكياء- قيمتها وأهميتها.

 

(وللموضوع بقية).

نقلا عن المصرى اليوم