القمص يوحنا نصيف
الأصحاح الرابع والعشرون من سِفر إرميا هو أصحاح صغير، مجرّد عشر آيات؛ ويحوي رؤيا بسيطة أراها الربّ لإرميا، عن سلّتي تين موضوعتين أمام هيكل الربّ؛ واحدة تحمل تينًا جَيِّدًا جدًّا، والأخرى تحمل تينًا رديئًا جدًّا، لا يؤكَل من رداءته.
وقد أوضح له الربّ انّ السلّة الأولى تُمَثِّل المجموعة من شعب إسرائيل التي ستخضع للتأديب الإلهي وتذهب إلى السبي بخشوعٍ وتوبة، فهؤلاء سيعيدهم الربّ من السبي بكرامة عظيمة إلى أرضهم ويتمجّد فيهم. أمّا السلّة الثانية فهي تمثِّل المجموعة التي سترفض وتُقاوِم تأديب الله، فتُحاول البقاء في أورشليم، وهؤلاء سيُسَلَّمون للقلق والمصائب والعار والجوع والسيف، ويُطرَدون بلا رجعة، حتّى يفنوا عن وجه الأرض.
من أجمل التأملات التي قرأتها حول هذا الموضوع، ما كتبه أبونا الحبيب القمّص تادرس يعقوب، في تفسيره لسفر إرميا. لذلك يسعدني أن أشارك في هذا المقال بعض فقرات من كلماته:
[+ السلّة التي تحملُ تينًا جيِّدًا تُمَثِّل أولاد الله، الذين يُقَدِّمهم أبوهم للتأديب خلال الحبّ لِأجل إصلاحهم، أمّا السلّة الثانية فتشير إلى الأبناء العصاة الذين يُترَكون لإرادتهم الذّاتيّة في عنادهم المُهلِك.
+ الذين ارتبطَت قلوبهم بأورشليم، في شكليّات خارجيّة مع عصيان وإصرار على الفساد، حُسِبوا تينًا رديئًا جدًّا، وأمّا الذين حُرِموا من أورشليم وفقدوا الهيكل بالجسد، لكنّ أعماقهم مرتبطة به بالروح، صاروا هم أنفسهم أورشليم الروحيّة، وهيكل الربّ المقدّس.
+ الله غالبًا ما يُشَبِّه شعبه بالكرمة أو التين. الكرمة تُشير إلى التفاف حبّات العنب حول فرع الخشب، إشارة إلى الكنيسة المجتمعة حول الصليب، تُشارِك المسيح آلامه وقيامته. وأنّ العنب يُعصَر فيصير خمرًا مُفرِحًا، هكذا تعيش الكنيسة متألّمة ومتهلّلة، بل ومصدر فرح لكثيرين.
+ أمّا التين فيُشِير إلى عذوبة "الوِحدة"، فآلاف البذور الرفيعة جدًّا يحتضنها غلاف الوحدة والحُبّ العذب، ويعطيها قيمة. كلّ بذرة في ذاتها لا تستحقّ إلاّ التخلُّص منها، لكن مع زميلاتها تُقَدِّم عذوبةً لِآكِلِيها، وشبعًا وصحّةً.
+ إذن سلّتا التين تمثّلان الشعب؛ اتّحد المؤمنون معًا بغلاف الوحدة، وارتبطوا بالحبّ النقي الطاهر، فصاروا تينًا جيِّدًا جدًّا. بينما اتّحد المقاوِمون معًا بغلاف الوِحدة في مقاومة الحقّ، والارتباط معًا لتحطيم العمل الإلهي، فصاروا تينًا رديئًا جدًّا.
أيضًا كَتَبَ القدّيس جيروم لإحدى السيّدات رسالةً، قال فيها:
[ليتَكِ تحتوين فواكِهَ، كتلك التي تنمو أمام هيكل الربّ،
هذه التي قيل عنها: "(التين) جيّد جدًّا".
الله لا يحبّ شيئًا نصف نصف،
بينما يُرَحِّب بالحار ويتجنّب البارد، يقول في سِفر الرؤيا أنّه يتقيَّأ الفاتر من فمه (رؤ3: 15-16).
الخُلاصة هي أنّنا عندما نُسلِّم حياتنا بالكامل بين يديّ الله في الصلاة، ونخضع لتأديبه وكلّ تدابيره، فهو قادر أن ينقّينا ويُجَمّلنا فنصير تينًا جيِّدًا، وكَرمَةً مقدّسةً.. أمّا الذين يرفضون بكبرياءٍ تأديب الله وتبكيت روحه في داخلهم، فإنّهم يدَمِّرون أنفسهم بأنفسِهم، ويصيرون كرمَةً جافّة ذابلة، وتينًا لا يؤكَل من الرداءة.
الأبواب الآن لاتزال مفتوحةً لكلّ إنسان أن يختار طريقه ومصيره، كما قيل في سِفر الرؤيا:
"لا تختم على أقوال نبوّة هذا الكتاب، لأنّ الوقت قريب.
مَن يَظلِم فليظلِم بعد.
ومَن هو نجس فليتنجَّس بعد.
ومَن هو بار فليتبرَّر بعد.
ومَن هو مُقَدَّس فليتقدَّس بعد.
وها أنا آتي سريعًا، وأجرتي معي لأُجازيَ كلَّ واحدٍ كما يكونُ عملُهُ."
(رؤ22: 10-12).
القمص يوحنا نصيف