القمص يوحنا نصيف
يُقدِّم القدّيس كيرلّس الكبير تعليقًا جميلاً على قصّة الشاب الغني، الذي يصفه الإنجيل بأنّه كان "رئيسًا"، وتقدّم إلى الربّ يسوع جاثِيًا على ركبتيه وهو يسأل: ايّها المعَلِّم الصالح، ماذا أعمل لأرثَ الحياة الأبديّة؟ (لو18: 18-27)، فيقول القدّيس كيرلّس:
+ الذين يؤمنون أنّ الكلمة الذي أشرق من جوهر الله الآب نفسه هو الله بالطبيعة والحقّ، فإنّهم يقتربون إليه كما إلى إلهٍ كُلِّيّ المعرفة.. ويَرَى كلّ ما يجري داخلنا.. ولكنّنا لا نجد جموع اليهود يميلون إلى هذا، لأنّهم مع رؤسائهم ومعلّميهم كانوا في ضلال، ولم يروا بعيون أذهانهم مجد المسيح، بل نظروا إليه بالحريّ كواحدٍ مثلنا؛ أقصِد كمجرَّد إنسان، وليس بالحريّ الله الذي قد صار إنسانًا، لذلك فإنّهم تَقَدّموا إليه ليجرِّبوه، وينصُبوا له فخاخ مَكرِهِم.
+ ذلك الذي يُدعَى هنا "رئيسًا"، والذي تخيّل في نفسِه إنّه عالمٌ بالناموس.. تَظاهَرَ بالتكلُّم بلُطفٍ، لأنّه دعا المسيح مُعَلِّمًا، ونعتَهُ بالصالح، فأفصح عن رغبته في أن يكون تلميذًا، إذ يقول: "ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟"
+ لاحِظوا كيف أنّه خَلَطَ التملُّق مع الغشّ والخِداع، كَمَن يخلط المُرّ مع العسل، لأنّه ظنّ أنّه بهذه الطريقة يمكِنه أن يخدعه. وعن مثل هؤلاء الناس قال واحد من الأنبياء القدّيسين: "لسانهم رمحٌ نافِذ، كلمات أفواههم غاشّة، يُكَلِّم صاحبه بسلام، لكن توجَد عداوة في نفسِه" (إر9: 8 سبعينيّة). وعلى هذا النحو أيضًا يتكلّم عنهم المرنّم الحكيم ويقول: "كلماتهم ألين من الزيت، وهي سيوف مسلولة" (مز55: 21).
+ لذلك تملَّقَ الرئيس يسوعَ، وحاول أن يخدعه، فتظاهَرَ أنّه يتّخِذ موقِفًا مُتَعاطِفًا معه، ولكن بماذا أجاب العالِم بكلّ شيء؟ "لماذا تدعوني صالِحًا؟ ليس أحدٌ صالِحًا إلّا واحد وهو الله".. وكأنّه يقول له: "إن كنتَ لا تؤمِن أنّني أنا الله، ورداء الجسد جعلك تضلّ، فلماذا تدعوني بأوصافٍ تليق فقط بالطبيعة الفائقة (الإلهيّة) وحدها، بينما أنت لا تزال تفترِض أنّني مجرّد إنسان مثلك، وليستُ فائقًا على حدود الطبيعة البشريّة؟"
+ إنّ صفة الصلاح بالطبيعة توجَد في الطبيعة التي تفوق الكلّ، أي في الله فقط، وهو (الصلاح) الذي لا يتغيَّر؛ أمّا الملائكة ونحن الأرضيّين فنكون صالحين بمشابهتنا له، أو بالحريّ باشتراكِنا فيه. فهو الكائن الذي يكون، وهذا هو اسمه (خر3: 14-15) وذِكرُه إلى كلّ الدهور؛ أمّا نحن فإنّنا نوجَد ونأتي إلى الوجود بأن نصير مشترِكين في مَن هو كائنٌ حقًّا.
+ لذلك هو صالحٌ حقًّا، أو هو الصلاح المُطلَق، أمّا الملائكة والبشر -كما قلتُ- هم صالحون فقط بصيرورتهم مشترِكين في الإله الصالح، لذلك فلنضَع الصلاح على أنّه الصفة الخاصّة بالله وحده الذي فوق الكلّ. وهو متّصِل جوهريًّا بطبيعته، وهو صفته الخاصّة.
+ ربّما لا يوافِق على صِحّة هذا الشرح أولئك الذين فسدَت أذهانهم، بمشاركتهم لشرّ آريوس، الذين يجعلون الابن أقلّ من الآب في السموّ والمجد.. فيقولون: ها هو قد أنكَرَ بوضوح وبصريح العبارة أنّه صالح، وأفرزَ الصلاح جانبًا على أنّه خاصّ بالآب فقط.. فلتكُن هذه هي إجابتنا على الذين يقاوموننا، حيث إنّ كلّ تفكير صحيح ودقيق إنّما يَعترِف أنّ الابن له نفس جوهر أبيه، فكيف لا يكونُ صالِحًا وهو إله؟ إذ لا يمكِن إلاّ أن يكون إلهًا مادام له نفس الجوهر مع مَن هو بالطبيعة الله. لأنّهم بالتأكيد، مهما كانت الجسارة التي سقطوا فيها شديدة، فلن يَقدِروا أن يثبِتوا أنّه من أب صالح خرج ابن غير صالح!
+ عندنا على هذا شهادة المُخَلِّص نفسه الذي قال: "لا تقدر شجرة جيّدة أن تصنع أثمارًا رديئة" (مت7: 18). فكيف يَخرُج نبات رديء من جذر صالح؟ أو كيف يمكن أن يتدفَّق نهر مُرّ من نبع عذب؟ هل كان هناك أبدًا وقتٌ ما، لم يكُن فيه الآب موجودًا، بينما نحن نعرف أنّه هو الآب الأزلي؟ وهو آب لأنّه قد وَلَدَ، ولهذا السبب فهو يحمِلُ هذا الاسم (آب)؛ وهو لم يحمل هذا الاسم مثل مَن يستعير هذا اللقب بتشبُّهِهِ بشخص آخَر، لأنّ منه تُسَمَّى كلّ أبوّة في السماء وعلى الأرض (أف3: 15). لذلك فنحن نَخلُص إلى أنّ ثمرة الإله الصالح هي الابن الصالح.
+ يقول بولس الحكيم جدًّا: "هو صورة الله غير المنظور" (كو1: 15)، وهو الصورة لأنّه يُظهِر في طبيعته الخاصّة جمالَ ذلك الذي ولدَه، فكيف يُمكِنُنا إذن أن نرى في الابن -إن كان غير صالح- الآب الذي هو صالحٌ بالطبيعة وبالحقّ؟ إنّ الابن هو بهاء مجد الآب ومثال شخصِهِ (عب1: 3)، ولكن لو لم يكُن صالِحًا، كما يقول الهراطِقة العديمو الفهم، بينما الآب هو صالحٌ بالطبيعة، فسيكون البهاء مختلِفًا في طبيعته.. كذلك الشَّبَه أيضًا سيكون مُزَيَّفًا، أو بالأحرى لا يوجَد شَبَه على الإطلاق!
[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 122) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف