نيفين مسعد
عندما كتبتُ قبل عدة أسابيع في نفس هذا المكان عن الحاجة للاختفاء المؤقّت وتقليد القطط التي تمتلك قدرةً فذّة على الاختباء -لم أكن أعرف أن كثيرين جدًا بيننا يريدون الاختباء فعلًا، وأن مقالي في الشروق كان حافزًا لهم على الكلام والبوح والفضفضة. وهكذا حدّثتني صديقة عن رغبتها في الاختباء هربًا من الأشخاص اللوّامين الذين لا يكفون عن التوجيه والنصح بحسن نيّة بالتأكيد، لكن بشكل خانق للأنفاس وكاتم للهواء. وحدّثتني أخرى عن أن شعور الآخرين بأنها متاحة ومتوفّرة طوال الوقت يقلل من الحساسية تجاهها باعتبارها مضمونة ولا يوجد أي قلق من غيابها، وأردفَت قائلة إن الاختباء أو الاختفاء يصنع نوعًا من الصدمة المطلوبة لدى الغير تجعلهم يفيقون لأنفسهم. وحدّثتني ثالثة عن أن الاختباء يسمح لها بمنطقة حرّة تعيش فيها لنفسها وتتأمل فيها أفكارها وتعيد تقييم تجربتها في الحياة، وأننا جميعًا نحتاج لمثل هذه المراجعة في مرحلة عُمرية معيّنة. وحدثّتني صديقة رابعة عن أنها باتت تشعر بالاغتراب الوجداني عن وسطها الأُسري الحميم، وأن مَن يظن أن الغربة تكون فقط في البُعد عن المقرّبين لم يجرّب الغُربة داخل داره ولا هو اكتوى بنارها.

• • •

حدّثتني وحدّثتني وحدّثتني.. حتى أدهشني كل هذا الطلب الكثيف على الاختباء. وفي مجملها لم تخرج مبرّرات الصديقات عن الرغبة في الاحتفاظ لأنفسهن ولو بحد أدنى من الخصوصية، أو الحاجة إلى حد أدنى من الشعور بتقديرهن من جانب المحيطين بهن، أو الاضطرار إلى الانفصال الجسدي عن البيت والأسرة بعد مرور سنوات على الانفصال النفسي. وكل هذه المبرّرات له وجاهته ولكن.... عندما نتأّمل التغيّرات التي طرأَت على مجتمعنا في السنوات العشر الأخيرة، نلاحظ توغلًا عجيبًا من الغير في خصوصياتنا حتى تكاد تنتفي (الأنا) تمامًا في مواجهة (الهُم) أو تكاد. باتت أفكارنا ومعتقداتنا وسلوكياتنا وملابسنا ومناسباتنا مشاعًا وملكية عامة متاحة للجميع، وهذا وإن كان مبررًا لدى البعض للهروب بحثًا عن مساحة خاصة إلا أنه يطرح سؤالًا عن الهروب إلى أين وكيف السبيل إلى الهروب؟ فإن نحن اختبأنا من تطبيقات الهواتف الذكيّة التي ترصد تحركاتنا وتدّل على مخابئنا وتكشف سترنا فكيف نختفي من غابة كاميرات المراقبة المنتشرة في كل مكان كانتشار نبات الفِطر؟ هل كان يصدّق أحد أن يثبّت شخص كاميرا للمراقبة على باب شقته؟ حدث هذا مع جارنا في الطابق الأرضي حتى صرنا في صعودنا وهبوطنا في مرمى عدسته بكل أريحية، هذا بينما هو يسدل ستارًا بلاستيكيًا سميكًا على بلكونته غيرةً منه على "حريم بيته". فإن أتينا إلى الهروب بحثًا عن إحداث صدمة لدى المحيطين بنا وإشعارهم بقيمتنا، فهذا أيضًا مبرّر مشروع، لكن الخوف هو من ألا يُحدث اختباؤنا الأثر المطلوب. وعن تجربتي التي حكيت عنها في مقال الأسبوع الماضي فإن اختباء أمي عند بعض صديقاتها كان يردع إخوتي في سن المراهقة لفترة قصيرة ثم يعود الحال لما كان عليه، أو كما كانت تقول أمي "أهو رجع أبوك عند أخوك"، وهو مَثَل لم أسمعه إلا منها، والحق أن كثيرًا من أمثالها يحمل نفس هذه الفرادة. أما الاختباء هربًا من الانفصال الجسدي عن المحيط، فأظن أنه الاختباء الأصعب على الإطلاق لأن له أوّل لكن قد لا يكون له آخر، وهذا ثمن غالٍ لا يقدر الجميع على دفعه بالضرورة، لأنه يتطلّب توفّر الاستغناء عن العيش في بيت العيلة كشرط مسبق وليس كل منّا بقادر على تدبير شئونه.

• • •

هل الاختباء فيه قدر من الجُبن لأنه يقترن أحيانًا بالعجز عن التعامل مع مشكلات الحياة -وهي كثيرة- ويُوجّه من يفكّر فيه للاختباء منها حتى يحلّها الحلاّل؟ سؤال ينطوي على قدر لا بأس به من القسوة، فضلًا عن أن إجابته بالإيجاب ليست حتمية. فمن الممكن أن يكون الاختفاء جزءًا من الحلّ، وذلك عندما يؤدي اختفاء أحد أطراف المشكلة عن مسرح الأحداث ولو لفترة محدودة إلى نزع فتيل الأزمة. ومن الممكن أيضًا أن يكون الاختفاء بديلًا رحيمًا بصاحبه بعكس خيارات أخرى كارثية، فإذا لم يحصل الشخص الهشّ نفسيًا على ملاذ آمن من خلال الاختباء المؤقت فإنه قد يلجأ إلى بدائل غير مضمونة العواقب، فالبعض منّا لا يقدر دائمًا على الاحتفاظ بسلامه الداخلي وسوّيته الطبيعية تحت الضغط، وبالتالي فإنه ما لم يسحب نفسه ويختلي بها فإنه قد يدمّر مَن حوله، وقد يدّمر نفسه شخصيًا.

• • •

حتى هذه اللحظة كانت كل أسباب الاختباء التي تكلّمنا عنها تنطوي على معاناة بأشكال مختلفة، لكن ماذا لو كان هناك سبب لطيف جدًا للاختباء؟ تطلب منّي أصغر حفيداتي وهي في منتهى الإثارة أن نلعب معًا استغماية أو كما تسميها مثل بنات وأبناء جيلها hide and seek فأستجيب من أجل سواد عينيها اللتين تفّط منهما الشقاوة فطّا. تستمهلني ثوانٍ قليلة حتى تُحسن الاختباء ثم تصيح بأعلى صوتها من تحت ترابيزة السُفرة: خلاص أنا استخبيت يا ڤيڤ فأضحك من كل قلبي لبراءتها وقد دلّني صوتها على مكانها، وتضحك حفيدتي أيضًا وهي تراقبني من مخبئها وأنا أنتقل من غرفة إلى أخرى وكأنني أبحث عنها فعلًا. هذا النوع من الاختباء الذي جرّبناه جميعًا مع أهلنا في سنوات الطفولة ثم عرفناه من بعد مع أولادنا وأحفادنا فيه سعادة مزدوجة، سعادة الصغار وهم يمتلئون فخرًا بقدرتهم على خداع الأهل ومفاجأتهم.. وكل مفاجآت هذا العُمر مبهجة، وسعادة الكبار بأنهم مصدر لفرحة الصغار الغامرة. فليت كل اختفاء عبارة عن استغماية.

• • •

لقد فتح لنا السيد ستيفان جارنييه مؤلّف كتاب "كيف تعيش مثل قطّك؟"، (مقالي بالشروق بتاريخ 28 يونيو)، مغارة علي بابا التي وإن خلَت من الذهب والمرجان والياقوت إلا أنها غنيّة بتجارب إنسانية مرهفة تختلف في تفاصيلها الصغيرة بالتأكيد، لكنها تُشعرنا جميعًا بأننا بتنا نعاني معاناة حقيقية لمجرد أن نستمّر في الحياة.
نقلا عن الشروق