د. سامح فوزى
منذ نحو خمسة وعشرين عاما، عندما كنت أدرس الماجستير فى التنمية السياسية فى جامعة «ساسكس» فى بريطانيا، حدثت واقعة تخص طالبا من إحدى الدول العربية، كان يدرس القانون. فقد أعد بحثا، وسلمه لأستاذه، وعندما أعلنت النتائج، وجد درجته «صفرا»، فطلب من زميل له ينتمى إلى نفس الدولة العربية أن يسأل عن سبب ذلك، رغم أن من حقه أن يسأل بنفسه، ويستقصى، ويشكو طبقا للقواعد الجامعية المتبعة. ذهب زميله إلى الأستاذ الجامعى، وسأله عن سبب حصول الطالب على «صفر»، فما كان من أستاذ القانون إلا أن فتح درج مكتبه، وأخرج البحث منه، وقال له: عندما أتيت هنا للمرة الأولى تصورت أن ترتكب أخطاء، وتتعلم منها، ولكن عندما تكتب بحثًا مثل هذا، فالأفضل أن تدفع المصروفات، وترسب». دهش الطالب من الإجابة، وزادت دهشته عندما علم أن زميله استأجرشخصًا آخر كتب له البحث، فاكتشف الأستاذ الجامعى الأمر بفطنته، فهو يعرف حال طلابه، ومستواهم العلمى، ولقنه درسًا قاسيًا. ولحسن الحظ تعلم الطالب الدرس، وأصلح من حاله، ونجح فى نهاية العام.

تذكرت هذه الواقعة عندما طالعت تدوينة كتبتها إحدى أساتذة الاقتصاد المرموقين على صفحتها على «فيسبوك «تشكو من أن البعض يسطو على آرائها، ويعيد نشرها على صفحاتهم الخاصة دون إشارة لها، بل إن هناك من يستخدم آراءها ومقترحاتها فى أحاديثه العامة دون أن ينسب ذلك لها. أتفهم حالة الامتعاض التى اعترتها، وهى ليست المرة الأولى التى أتقاطع فيها مع قصص مثل هذه، بل هناك وقائع عديدة عن حالات من السطو على الآراء من جانب آخرين، ينسبونها لأنفسهم بجرأة يحسدون عليها. وقد حدث ذلك معى أكثر من مرة.

ورغم ذلك فإننى أظن أن المسألة أبعد من مجرد الاستيلاء على رأى أو نص لأحد الكتاب، وإعادة استخدامه، دون الإشارة إلى مصدره، لأن المجتمع يعج بصور متعددة من «الاستباحة»، والتى يحار المرء فى استيعاب جرأة من يقومون بها. هناك من يسطو على آراء الآخرين، ويروج لها باعتبارها إبداعه الشخصى. وهناك من يستولى على الإنتاج العلمى لشخص آخر، ويضع اسمه عليه، وهناك مكاتب منتشرة تحت مسميات مختلفة تٌعد رسائل جامعية بمبالغ مالية، وهناك جهات وهمية تدعى أنها تقدم شهادات علمية، ونطالع أخبارا باستمرار عن قيام وزارة التعليم العالى بإغلاق كيانات غير مرخص لها تقدم شهادات دراسية، وهناك من يدعى الحصول على درجات علمية على خلاف الحقيقة، وهناك من يسرق إنجازات الآخرين، وينسبها لنفسه، ونجد لافتات مضاءة فى عمارات فارهة تشير إلى تمتع بعض المهنيين- أطباء ومهندسين ومحامين- بعضوية جمعيات وهيئات علمية دولية دون أى سند، وبعضها أسماء وهمية، بل إننى وجدت فى شارع ضيق فى أحد أحياء القاهرة القديمة لافتة محام، تشير إلى حصوله على درجة الدكتوراة فى القانون من جامعة أوكسفورد، وعندما استقصيت الأمر، وجدت أن هذا الشخص لم يسافر للخارج، ولا يعرف اللغة الانجليزية. وتمتد ثقافة الاستباحة إلى مساحات خارج الإبداع الثقافى أو الادعاء العلمى، مما يندرج تحت الغش التجارى مثل ادعاء نسب منتجات معينة إلى ماركات عالمية أو بلد منشأ مختلف، عادة تكون من الدول الصناعية الكبرى، خلافا للواقع، أو إشاعة القول بتحقيق إنجازات فى مجال معين، ادعاء وكذبًا، مثل جمعية أهلية صغيرة تدعى أنها قامت برفع وعى ملايين النساء المصريات، وما رافق ذلك من نشر أرقام وإحصاءات غير صحيحة. ولعل أخطر صور «الاستباحة» هى التى تطول الأشخاص أنفسهم، أى يصبح الشخص موضوعا للاستغلال من جانب شخص آخر، إما لأنه رئيسه فى العمل، أو أستاذه فى الجامعة، أو لأنه يتمتع بوضع «سلطوي» ما فى مواجهته، وتتعدد صور استغلال البشر ما بين القيام بخدمات مادية مباشرة لصالح الشخص المهيمن إلى إجبار الغير على فعل ممارسات لا أخلاقية، وقد ناقش الدكتور أحمد زايد، أستاذ علم الاجتماع المعروف، فى كتاب له صدر مؤخرا بعنوان «سؤال الأخلاق فى مشروع الحداثة. جدل الحضور والغياب» قضية تبرير الاستغلال بذرائع أخلاقية مثل اعتبار استغلال أستاذ لتلميذه تعليما له، أو ادعاء الشخص الذى يستغل العمال الذين يعملون فى أرضه بأنهم هم أصحاب الأرض الحقيقيون، أو تغليف الاستغلال بادعاء الصداقة...الخ.

تشكل هذه الصور من غياب النزاهة عائقا أمام تقدم المجتمع، وتتطلب مواجهتها قوانين صارمة، ومواثيق أخلاقية، وعقوبات قاسية، حتى تحد منها، ولا تسمح باستمرارها، لأن التنمية الحقيقية لا تتحقق إلا فى ظل واقع يحترم حقوق الملكية الفكرية، والكرامة الإنسانية.
نقلا عن الاهرام