عاطف بشاى

أما وقد استقر فى يقيننا.. استكمالًا لما ورد فى المقال السابق.. أن ثقافة «التلقين» التى أشار إليها عميد الأدب العربى «د. طه حسين» فى كتابه الهام «مستقبل الثقافة فى مصر» (١٩٣٨) هى آفة آفات التعليم فى بلادنا.. وهى تلك القائمة.. سواء فى محتواها وطرق تدريسها وبالتالى اختياراتها على المحافظة القدسية المرتبطة بالحفظ والنقل والصم والنسخ واجترار سطور الكتب التعليمية اجترارًا آليًا.. فبناء عليه تأتى الاختبارات مباشرة المحتوى تفتقر إلى التفكير وتجفل بإقصاء العقل ولا تسمح الإجابات عنها بالتميز أو التفاوت أو التنوع.. بل إنها تعتمد اعتمادًا كارثيًا على مطبوعات الإجابات النموذجية التى يلتزم بها الطالب والمعلم.. ويضعها كتيبة المصححين أمامهم أثناء التصحيح للاسترشاد بها.. وبالتالى فإن الأسئلة تخلو من نوعية: حلل– ارصد– ناقش– علل– قارن– استنتج– استخلص– برهن– أثبت– فسر– استنبط– عبر عن رأيك– اطرح وجهة نظرك.

لذلك فإنه من الشائع إذا أفلت سؤال بالصدفة من قبضة «المباشرة المعتادة» فى أحد الاختبارات وخاصة فى الثانوية العامة تتعالى صرخات وبكاء وعويل وغضب واستنكار الطلبة والطالبات من صعوبة الامتحان.. ولا أنسى فى أحد الامتحانات، نشرت فى صحيفة صورة لطالبة وهى تلطم منتحبة ويعلق الصحفى ناقلًا سخطها وهى تردد: إحنا ما اتفقناش على كده.. الأسئلة صعبة وتحتاج إلى التفكير.

 

والمدهش فى هذا الإطار أن المناهج الدراسية فى كل مراحل التعليم يضعها على مدى كل العقود السابقة مفتشو ومديرو وزارة التربية والتعليم ولا يتم اللجوء إلى المتخصصين.. ولا أعرف سببًا للإصرار على ذلك وعدم الاستفادة من الخبرات المختلفة فى كل المجالات.. فلماذا لا يضع منهج علم النفس مثلًا أساتذة علم النفس والأطباء النفسيون، وعلم الاجتماع يضعه أساتذة علم الاجتماع والمفكرون.. والفلسفة الفلاسفة.. والتاريخ المؤرخون.. والأدب والشعر والبلاغة الشعراء وأساتذة النقد الأدبى.. والى متى تظل مناهج اللغة العربية تنتهى عند «أحمد شوقى» و«حافظ إبراهيم».. وتفتقر إلى الشعر الحديث ورواده العظام مثل: «صلاح عبد الصبور» و«أحمد عبد المعطى حجازى» و«أمل دنقل» و«نزار قبانى».؟. والقصص المقررة تفتقر إلى روايات وقصص «يحيى حقى» و«نجيب محفوظ» و«توفيق الحكيم» و«يوسف إدريس» و«إحسان عبد القدوس»؟.. هل أعمال هؤلاء العظام من المحرمات يجب تكفيرها؟. ويكتب الشاعر الكبير «أحمد عبد المعطى حجازى» فى هذا الشأن متسائلًا فى غضب عن الجهة التعليمية المسؤولة عن وضع المناهج الدراسية والنصوص الشعرية لمرحلتى الإعدادية والثانوية ومتهمها بالإخفاق المزرى.

 

وأنا أشاركه الغضب وأدخل عليه بمثال عن شعر ساذج من معلقة كتبها.. «عمرو بن كلثوم».. ويدرسها الطلبة فى المرحلة الثانوية ومناسبة النص كما أورده الكتاب المقرر أن ملك الحيرة طرح سؤالًا على بعض من حاشيته هو: هل هناك امرأة تأنف من خدمة أمى؟!. فقال له أحدهم.. نعم.. إنها «ليلى بنت المهلهل» أم عمرو بن كلثوم.. الشاعر.. فقرر الملك أن يقيم مأدبة عامرة فى قصره يدعو إليها الشاعر وأمه.. وأوعز لأمه أن تطلب من «ليلى» أن تناولها طبقًا من الطعام بعيدًا عنها.. فما كان من ليلى إلا أن أجابتها فى اعتداد وترفع: فلتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها.. فلما كررت الأم الطلب آمرة بحدة حتى صاحت ليلى صيحة مدوية: «وا ذلاه» فما كان من «عمرو» إلا أن انتفض فى غضب جامح.. واندفع إلى الملك مشهرًا سيفه وأطاح برقبته وأسقطه مضرجًا فى دمائه.. وأسرع واصطحب أمه وامتطى جواده.. وانطلق إلى داره ليكتب معلقته الدامية التى يزهو فيها ببسالته ونخوته دفاعًا عن كرامة والدته. والمدهش فى الأمر أن يذكر الأستاذ المسؤول عن اختيار النصوص المقررة فى تقديمه للقصيدة أنها كتبت فى غرض دفاع هذا الداعشى الآثم عن شجاعته وعزة نفسه الأبية التى تنتصر فى إباء وشمم لكرامة العرب!!.

 

 

فإذا تصورنا أن طرح سؤال فى الاختبار فحواه: ما الغرض الذى تشير إليه القصيدة؟!. أو فى أى مناسبة كتب الشاعر هذه المعلقة؟!. وشذ طالب نابه عن آفة التلقين اللعينة وأجاب عن السؤال مناقضًا للمقدمة التى طرحها الأستاذ «الجهبذ» التى يشيد فيها بشموخ وبسالة وعظمة الشاعر النبيل القاتل.. وبخلاف الإجابات النموذجية الموضوعة أمام المصحح «التلقينى»، وكتب الطالب أن الغرض المقصود فى القصيدة هو الدعوة الإرهابية والإجرام البشع والتطرف المقيت.. والانحطاط الخلقى للشاعر الدموى.. حتمًا سوف يحصل الطالب على درجة الصفر، وربما يعاقب على وقاحته فى تطاوله على معلمه «الملقن» بالرسوب فى المادة.

تقلا عن المصرى اليوم