سحر الجعارة

أتعس البشر هم أولئك المطالبون بالعقل والتروى دائماً.. مَن قرروا أن تكون الحكمة لغتهم والمنطق دليلهم.. والتضحية منهجهم، مَن يمنحون ذواتهم دون انتظار المقابل.. فيظل معظمهم يدور فى هامش مغلق على قناعاته ينتظر من يحرره منها، يعلمه فنون التمرد.. يضع فى يده آليات لكسر النمطى والسائد والمألوف.. غير أن هذا الملاك الغامض لا يأتى أبداً لأنهم لا يفتحون له الطريق. اعتادوا الأسر.. ربما، أو ربما لا يعرفون للعطاء بديلاً، أو أدمنوا دور «الضحية»!

 

قد يكتشف بعض هؤلاء -وربما أكون منهم- فجأة أن الحياة أقصر من عذابات شخصية «الشهيد»، أنها تمر عابرة سريعة، سواء بمرارة آهة أو برنين ضحكة، ودائماً يكون الاكتشاف متأخراً جداً، حيث لا وقت للندم فتأتى التبريرات: «المهم أننا أخلصنا للقضية (لا يهم أية قضية) وتركنا فى الحياة بصمة لا تُمحى.. كتبنا ولو حرفاً فى ذاكرة التاريخ، لم نكن شخصيات عادية عابرة.. أن الحياة تغيرت بنا!!».

 

لا أدرى كيف تتغير بنا الحياة إن لم نصُغ نحن قانون التغيير؟ أليس من العبث أن نكون فى علاقة إذعان دائماً لمن نحب، بينما نحن ندندن بحديث طويل عن المشاركة والتواصل والتفاعل!.. أليس من الجنون أن نعيش صراعاً مكتوماً طيلة الوقت يستهلك جهازنا العصبى دون أن ننزع عنا ثوب الوقار الموشَّى بقواعد القانون والأخلاق فلا نخرج عن ذلك الالتزام القاسى لنصرخ فى مظاهرة أو نبكى أو على الأقل نلعن تخلى الأحبة أو خيانة الأصدقاء.. أو حتى نرفض صوت قطة الجيران! أليس من الغريب أن نكتب عن الإرادة.. ونسعى لتعميق الوعى، فتكون ضريبة وعينا أن نُحرَم من حق الرفض وتُسلب منا حتى الرغبة فى التمرد! قد يدَّعى البعض أن تناقضاتنا الذاتية سر تفردنا وتميزنا. وعلى سبيل التغيير والاختلاف اسمحوا لى أن أعلن لكم هذه «التخريفة»: اعتدت -كلما راجعت نفسى- أن أشطب الأحداث السيئة من أجندتى أو أنفيها فى خانة بعيدة فى ذاكرتى، حتى يتسع المجال لوعود جديدة أسعى إلى تحقيقها.

 

كان أول قراراتى ألا أكتب لكم عن الكوارث الطبيعية ولا الأزمات الاقتصادية ولا أذكركم بزعامات رحلت، أو أكتب عن مجتمع دولى تخلى عن شعب عربى يباد (فلسطين). لن أحدثكم عن التطرف والتنطع والتعصب. لن أقترب بكلماتى من السلبيات على سبيل التفاؤل. ربما أبتعد قليلاً عن الكتابة السياسية.. «سأكتب فى الحب». ولأن «العدل أساس الحب» لن أدخل فى علاقة غير متكافئة.. لن أرتدى ثوب الضحية، سأتعلم أن أغلق ضلوعى فى وجه من يستغلنى.. ولن أسمح للمغرضين وأصحاب المصالح بالاقتراب من مجالى الحيوى، سأواجه كل كاذب وغشاش ومراوغ، لن يكون فى حياتى بند للمجاملة أو للنفاق الاجتماعى، لن أقبل المشاعر المزيفة بعد اليوم.. ولن أقدّم قلبى إلا لمن يستحق، سأراجع كل صداقاتى وأعيد ترتيب أوقاتى.. سأكافئ نفسى بإجازة أنزع خلالها أسلاك التفكير المكهربة المثبتة فى عقلى.. سأكف عن التفكير والقلق.. أتعلم الصد وأخفف حدة اللهفة.. سأعود إلى عالم الطفولة حيث اللهو برىء والمشاعر نزيهة والأحلام بسيطة والقيود حريرية.. ثم أعود لكم كأنى وُلدت من جديد.

 

 

ربما أعود لأقول لكم إننى لم أفعل شيئاً مما وعدت نفسى به، وإننى أدمنت الدوران فى (مطحنة) تسحق عمرى.. ربما أمتلك القدرة على التحريض ولكن الفعل شىء آخر!.. من السهل أن أقول لك: استقِل من مهنة لا تعجبك، هاجر من وطن لا تتحقق فيه.. أو اهجر فراشاً لا يُشبعك، أو ارحل من قلب لا تشعر فيه بالاحتواء.. ما أسهل الكلمات ما دمت غير مطالب بتوفير البديل.. لكننى آخر من يكسر إشارة المرور.. صحيح أحاول طول الوقت أن أكون نفسى.. وأمارس حق الرفض كلما أمكن، فأُجن أحياناً بتعقل.. وفى أحيان أخرى أكون عاقلة إلى درجة الجنون.. للأسف قد يستحيل علينا أن نتغير بعد انقضاء المشوار الطويل.. ربما لأننا نجد العزاء فى كل ما نحاول التمرد عليه: «الوطن، القضية، العشق، الصداقة، الصدق، العطاء، التطابق مع النفس».. قد تبدو مجرد كلمات، لكنها فى الواقع محطات تركنا فى كل واحدة منها قطعة من القلب.

نقلا عن الوطن