خالد منتصر

أسعدنى حظى منذ سنوات بلقاء د. مراد وهبة، أستاذ الفلسفة الشهير، والمفكر التنويرى المحرك للراكد من ثقافتنا الماضوية، عبر ما يكتبه وينشره حتى اليوم، رغم تجاوزه السابعة والتسعين من عمره، تمتّعت وفُزت بالجلوس معه عدة مرات وزيارته فى منزله الهادئ الجميل، ثم تباعدت بيننا السُّبل، واختار هو العزلة فى بيته للتأمل والقراءة، لكن دار بيننا حوار تليفونى منذ أكثر من أسبوع، كنت سعيداً به أيما سعادة، وسعيداً أكثر بتوقّده الذهنى الذى ما زال يحتفظ به، وقدرته البديعة على طرح الأسئلة، وموقفه الثابت من الأصولية الدينية التى نبّه إليها منذ عشرات السنين قبل أن تستفحل وتهدّد سلام العالم وأمانه، بعد انتهاء المكالمة وجدتنى أبحث فى مكتبتى عن كتاب «ملاك الحقيقة المطلقة»، الذى أعده من أهم كتب د. مراد وهبة، النسخة التى أمتلكها فى مكتبتى صادرة عام 1999 عن مكتبة الأسرة، ورغم أننى أتذكر مقالاته فى هذا الكتاب، عناوين ومتناً، حتى الآن، إلا أننى غرقت بين سطوره، حتى أنهيته فى جلسة واحدة رغم ضخامته، لكننى لم أستطع مقاومة الأسلوب، وجرأة الأفكار، والقدرة على الرؤية المستقبلية، لدرجة أننى أراه وكأنه يصف حاضر 2024!!، وأدعوكم معى إلى قراءة تلك الفقرات حتى لا تتهموننى بالمبالغة إذا قلت إننا أمام ابن رشد المصرى المعاصر، يقول د. وهبة:

 

 إن من يزعم أن هناك أشخاصاً يملكون الحقيقة المطلقة «وهم»، حيث لا توجد حقيقة مطلقة، وهذه ظاهرة تجب دراستها، كل الأصوليات الدينية زعمت أنها تملك الحقيقة المطلقة، ثم بعد ذلك تقوم بأعمال إجرامية وتقتل المواطنين، ومن هنا نشأ الإرهاب. وإن الفكر الإنسانى أصبح حائراً ما بين امتلاك بعض الأشخاص الحقيقة المطلقة، وبين آخرين يشكّكون فى ذلك، فالبعض أكد أن العقل الإنسانى لا يصل إلا لحقيقة نسبية، ولا يصل للحقيقة المطلقة، والبعض الآخر أكد أن العقل الإنسانى لا يستطيع أن يصل إلى أى حقيقة.

 

 فى العصر اليونانى قال الفلاسفة إن العقل الإنسانى لا يستطيع أن يصل إلى أى حقيقة، ولكن الآن نستطيع الوصول إلى حقيقة نسبية من خلال إدراك الواقع الخارجى، سواء بالحواس أو العقل، ولكن لا يوجد شىء يُسمى الحقيقة المطلقة، لأن المعرفة مسألة نسبية تتّفق مع العقل.

 

 ظاهرة الأصولية الدينية تأتى من قراءة حرفية للنصوص الدينية، فهذا واضح بلا شك فى الكثير من الحركات الإسلامية وغير الإسلامية المتطرّفة التى تأخذ من الرموز الدينية شعارات للتأثير على الجموع المتديّنة والسيطرة عليها، والخطورة هنا تقع فى أن الدين يُستخدم كأداة لتنفيذ المشروعات السياسية لتلك الحركات، وهذا مما يُزيف ويشوه صورة الدين بين الناس، وقد كثرت فى أيامنا هذه الحركات الأصولية المتطرفة.

 

 التعصّب ظاهرة من ظواهر الأصولیة. وأساس التعصّب هو الفكرة بأن هناك علاقات خاصة بين الإله وشعب ما، فصار هذا الشعب فى هذه النظریة شعباً مختاراً. وبحكم هذه العلاقة الخاصة بين الشعب وإلهه نشأ التوهم عند أمثال فرعون بأنه مالك للحقيقة المطلقة؛ فبما أن الحقیقة المطلقة واحدة، فلیس من حق أحد معارضتها أو الإتيان بغيرها. ومن توهم أن يفعل ذلك فمصیره العذاب وبئس المصیر. وقد أطلق لفظ «الأصولیین» على ملاك الحقيقة المطلقة، إْذ إنهم یقولون إنهم ملاك هذه الحقیقة المطلقة دون سواهم.

 

 لا بد من النضال ضد هذه التيارات اللاعقلانية والدينية من خلال مفهوم الكونية، باعتبارها أسلوباً فى التفكير، وفى فهم الكون والواقع، فهما منفتحان على غرار تفكير ابن رشد الذى ميّز بين الكفر والتجديد أو التغيير.

 

وهذا ينجم عنه التحرّر من إرهاب المطلق الذى تجسّد فى «سيد قطب» و«أبى الأعلى المودودى»، والخمينى، إنها الأصوليات الراديكالية فى عالمنا العربى والإسلامى التى هى ليست مجرد رد فعل ضد الرؤية الكونية التى تُهدّد تراثها المقدّس، بل هى تهدف إلى تشكيل العالم، استناداً إلى مقولات ثلاث: العنف والإرهاب والثورة، وإعطاء حق الإنسان فى تأويل النص المقدس بروح الديمومة، والحركة الديالكتيكية بين النسبى والمطلق.

نقلا عن الوطن