القمص يوحنا نصيف
    للقديس كيرلسّ تعليق جميل على كلام الربّ يسوع عندما قال له بطرس: "ها نحن قد تركنا كلّ شيء وتبعناك"، أقدّم في هذا المقال بعض مقتطفات منه:

    + ذلك الذي هو ينبوع التعاليم المقدّسة يجعل هنا أيضًا نهرًّا صِحِّيًّا يتدفّق لنا، كما يبدو أنّ المناسَبة نفسها تدعونا أن نقول لِمَن يفحصون الكلمات الإلهيّة: "أيّها العطاش هلمُّوا إلى المياه" (إش55: 1). فقد وُضِعَ أمامكم أن تشتركوا في نهر البهجة الذي هو المسيح، لأنّ داود النبيّ ذَكَرَهُ بهذا الاسم، فقال لله الآب الذي في السماء: "فبنو البشر في ظلّ جناحَيكَ يحتمون. يُروَون من دسم بيتك، ومن نهر بهجتِك تسقيهم" (مز35: 8 سبعينيّة). أمّا ما هو هذا النهر الذي يتدفَّق إلينا منه، فهذا ما تُعلِّمه لنا بوضوح الدروس الإنجيليّة الموضوعة أمامنا الآن.

    + ما هو الذي تَخَلَّى عنه التلاميذ عمومًا، لأنّهم كانوا أشخاصًا يكسبون ضروريّات الحياة بعرقهم وكدِّهم، ولأنّ صناعتهم كانت صيد السمك، فهُم يمتلِكون على الأكثر قارِبًا وشباكًا. ولم يكُن لهم بيوت جميلة أو أيّ مقتنيات أخرى، لذلك فما الذي تركوه أو عِوَضًا عن أيّ شيء يسألون من المسيح مكافأة؟ بماذا نُجيب عن هذا؟

    + بقدر ما كانوا لا يمتلكون شيئًا سوى ما هو زهيد وتافه القيمة، فإنّهم سوف يَعرِفون الطريقة التي بها يُجازي الله ويُبهِج بعطاياه أولئك الذين لم يتركوا سوى القليل لأجل ملكوت الله، راغبين أن يُحسَبوا جديرين بملكوت السموات لأجل محبّتهم له.

    + عند التأمُّل بطريقة صحيحة، فإنّنا نجد أنّ ألمَ التخلِّي هو نفسه، سواء أكان التخلِّي عن كثير أو عن قليل. هلُمُّوا كي نرى المغزى الحقيقي للأمر بمثال بسيط. لنفترِض أنّه كان على رَجُلَيْن أن يَقِفا عريانَيْن، وفي فِعلِهما هذا نَزَعَ الواحد منهما عن نفسِهِ ثيابه الغالية الثمن، بينما الآخَر خلَعَ فقط ما كان رخيصًا وسهل الاقتناء، ألا يكون ألم التَعَرِّي واحِدًا في الحالتين؟ هل يُمكِن أن يكون هناك شَكّ حول هذه النقطة؟ لذلك بقدر ما أنّ الأمر إنّما يتعلّق بالطاعة والنيّة الحسَنة، يلزم وضع هؤلاء الفقراء على قدَم المساواة مع الأغنياء، الذين رغم أنّ ظروفهم تختلف، لكن كان لهم استعداد متساوي وقبِلوا برضا بَيْعَ كلّ ما لهم.

    + كون أنّ أولئك الذين يعيشون حياةً فاضِلة ينالون بالضرورة الحياة الأبديّة، فهذا أمر ليس فيه شكّ على الإطلاق. لكن يوجَد أوّلاً سؤال ضروري بخصوص مَن هُم الذين تركوا أبًا وأُمًّا وزوجةً وإخوةً وبيوتًا؟ وثانيًا أيضًا يجب أن نفحص فحصًا دقيقًا ما هي الطريقة التي سوف ينال بها مَن يفعلون هذا، أضعافًا كثيرة في هذا العالم؟

    + إنّ رسالة الإنجيل الإلهيّة، عندما تصطاد العالم كلّه، كأنّه في شبَكة؛ إلى الإيمان، وترفعه إلى نور معرفة الله، فيوجَد هناك مَن يدخلون بسرعة، ولكنّ البعض يُقاسون من خزي مهين، إذ يكونون خائفين سواءً من آبائهم أو أمّهاتهم، ويعطون اعتبارًا عظيمًا لغضبهم أو حزنهم، لأنّه إن كان هؤلاء الوالدون غير مؤمنين، فلن يوافِقوا على أنّ أولادهم وبناتهم يُسَلِّمون ذواتهم لخدمة المسيح، ويتخلّون عن الضلال الذي تربّوا عليه..

    + أمّا الأقوياء في الذهن الذين لا يُفَضِّلون شيئًا على محبّة المسيح، فإنّهم يُمسِكون بالإيمان بغيرةٍ ويحاوِلون باجتهادٍ أن يدخلوا إلى بيت الله، من خلال العِلاقة الروحيّة، ولا يُعِيرون انتباهًا للحروب، أو بالأحرى الانقسامات التي سوف تترتَّب على إيمانهم، مع أقربائهم حسب الجسد. وبهذه الطريقة يترك بعض الناس البيت والأقرباء لأجل المسيح لكي يربحوا اسمه ويُدعَوا مسيحيّين.

 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 124) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف