سمير مرقص
(١) مرحلة جديدة فى حياة الناتو
فى يوليو من العام الماضى، كتبنا مقالا بعنوان: «الناتو من الانقسام الكبير- الأيديولوجى- إلى الفرز الجديد- الإمبريالى»، بمناسبة إطلاق حلف شمال الأطلسى لوثيقة غاية فى الأهمية تحت عنوان: «المفهوم الاستراتيجى» Strategic Concept، أشرنا فيها إلى أن «الناتو» يستعد لتدشين مرحلة جديدة فى تاريخه منذ تأسيسه فى إبريل من سنة ١٩٤٩، حيث يعيد أهدافه الاستراتيجية وهيكلته وذلك، حسب الوثيقة، حول فكرة محورية مفادها مواجهة «تزايد التنافس الاستراتيجى فى العالم» rising strategic competition، أى أن الشعار التاريخى للحلف: «الواحد للكل والكل للواحد»، والذى تبلور فى وثيقته التأسيسية، عقب الحرب العالمية الثانية، والذى كان يعبر عن تعبئة المعسكر الغربى الرأسمالى فى مواجهة المعسكر الشرقى الاشتراكى. قد أصبح اليوم موجها للأقطاب/القوى البازغة والتى باتت تتنافس مع دول الحلف على تقاسم العالم جيو ـ سياسيا من أجل الهيمنة على الثروات والموارد. وهو ما تنص عليه وثيقة المفهوم الاستراتيجى «للناتو» فى فقرتها الـ١٣، حيث تشير بجلاء إلى التحدى الذى تمثله الصين روسيا) لمصالح وأمن وقيم دول حلف الأطلسى، وذلك من خلال الوجود المادى: الاقتصادى، والعسكرى، والسياسى، فى كثير من الدول والمناطق الحيوية فى العالم «بغرض السيطرة (حسب الوثيقة وإن كنت أميل إلى استخدام كلمة احتكار) على القطاعات التكنولوجية والصناعية والبنية التحتية الحيوية والمواد الاستراتيجية وسلاسل التوريد».. ويرى الحلف أن ما سبق سيؤدى إلى «تدمير» subvert القواعد التى يقوم عليها النظام الدولى الراهن، ما يعنى الدخول إلى سياق دولى جديد يقوم على الفرز الإمبريالى. وتعد الوثيقة المشار إليها، الصادرة فى يوليو ٢٠٢٣، بمثابة دليل عمل لحلف «الناتو» عشية احتفاله بيوبيله الماسى الـ ٧٥.

(٢) الناتو يهمل ما يجرى فى الشرق الأوسط
على مدى السنة الفائتة جرت مياه كثيرة بفعل الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة منذ ٢٠٢٢ من جهة، وانطلاق طوفان الأقصى فى أكتوبر ٢٠٢٣ من جهة أخرى. ومن ثم كان من المفترض أن يواجه حلف شمال الأطلسى، فى احتفاليته بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسه، فى مطلع يوليو الماضى فى واشنطن، البيئة الأمنية العالمية المتوترة فى كافة أنحاء العالم دون تمييز/ استثناء. إلا أن البيان الختامى جاء خاليا من أى إشارة، من قريب أو بعيد، لما يجرى فى الشرق الأوسط من حرب إبادة للفلسطينيين. إذ ركز البيان على بؤرتين أمنيتين لا ثالث لهما هما: البؤرة الأوروبية، وكيفية دعم أوكرانيا فى مواجهتها لروسيا. والبؤرة التى تتعلق بالمحيطين الهندى والهادئ، إضافة إلى تدبر موقف أطلسى جماعى حيال الصين لأنها، فى تصور الحلف، تشكل «قلقا ضخما وتحديا للنظام الدولى الراهن» وذلك لسببين: أولا: تحركاتها فى شتى أنحاء العالم للسيطرة على القطاعات الصناعية وسلاسل التوريد والموارد الطبيعية. وثانيا: الشراكة الاستراتيجية مع روسيا وما تمثله من تهديد حقيقى للغرب الأطلسى ومصالحه فى شتى المناطق الحيوية فى العالم والتى من ضمنها الشرق الأوسط بطبيعة الحال. إلا أن إهمال الناتو لما يجرى فى منطقتنا كان مثيرا للتساؤل.

(٣) مستويات الصراع فى المنطقة
بيد أن الإجابة أتت سريعا فى أعقاب موجة الاغتيالات التى قام بها جيش الكيان الصهيونى الأسبوع الماضى والاستنفار الإيرانى واللبنانى واليمنى، إذ كشف عن حجم الحضور العسكرى المكثف للناتو فى البحرين: الأبيض المتوسط، والأحمر. كذلك كيف تم إرسال دعم مهول فى الأيام الأخيرة دعما لإسرائيل فى مواجهة استنفار محور المقاومة. ونشير إلى ما قاله أحد القادة العسكريين بأن التعبئة الجارية فى المياه الإقليمية الشرق أوسطية هى الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية. وهى تعبئة تؤكد أن هناك مستويين من الصراع فى المنطقة: الأول: يعكس موقف الناتو من الحق الفلسطينى والانحياز السافر لإسرائيل الذى جعل الناتو يصمت عما يجرى من قبل «الاحتلاليين» (تراجع المعلومات التى تتكشف حول الرحلات الجوية والبحرية لنقل الذخيرة خلال الشهور الماضية من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا كما تتوفر فى الوقت الراهن على حاملة طائرات ثيودور روزفلت ٤٠ مقاتلة من صنف إف ١٨ وإف ٣٥، و١٥ مقاتلا من المارينز). ثانيا: كيف أن حقيقة طبيعة الصراع فى الشرق الأوسط إنما تعكس التنافس الإمبريالى بين الغرب الأطلسى وبين الشرق الإمبراطورى من جانب ثانٍ.
نقلا عن المصرى اليوم