نسيم مجلى
الثقافة الرفيعة هى التى تضيف للإنسان معرفة جديدة أو رؤية جديدة ترتفع به فى مستوى التفكير والتنظير وتدفعه الى التغيير والتجديد، ويتم ذلك عن طريق فحص الموروثات الفكرية والاجتماعية وغربلتها بمعيار العقل والمنطق بحيث يبنى الانسان رؤيته على أساس المعقول والمفهوم ومن ثم يبدأ التمييز بين الحقائق والخرافات وبين الثقافة والفوضى.
فرواد الحضارة والتقدم جاهدوا من أجل تغيير حياتهم وحياة الآخرين إلى الأفضل ولهذا عاشوا فى ضمير الشعوب مكرمين وممجدين. فالثقافة الرفيعة إضافة حقيقية وجديدة وليس لغوا يستخدمه الأدعياء والدجالون لإيهام البسطاء أوخداعهم. لذلك يسعى الطامحون الى التفوق فى العلوم والفنون الى هؤلاء الرواد والتعرف عليهم وقراءة أعمالهم ليتعلموا من تجاربهم ويحتذوا بهم كمشاعل أنارت الطريق.
فى أوئل الثلاثينات من القرن الماضى، اشتهى لويس عوض وهويخطو خطواته الأولى فى كلية الأداب جامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول –حينذاك)، اشتهى أن يرى كبار الأدباء الذبن يقرأ لهم، فزار العقاد فى بيته ثم زار طه حسين أيضا.
خرج لويس عوض من لقائه الأول بطه حسين والعقاد تملؤه مشاعر قوية، هي مزيج من الزهو والثقة بالنفس؛ إذ اكتشف فجأة أنه ينتمي بحق إلى هؤلاء العمالقة العظام. وهذا ما يؤكده في كتابه" أوراق العمر" حيث يقول:
"هذان - إذن - كانا عملاقي الأدب اللذين كانا المثل الأعلى لكل أديب شاب في العشرينيات. وبقدر ما كان طه حسين قليل الكلام هادئ النبرة جاد الملامح، يستمع أكثر مما يقول.. كان العقاد متدفقا جياشا جهير الصوت يتكلم أكثر مما يستمع قادرًا على البشر. ووجدت عند هذا وذاك عطفا واهتماما. نعم. إن العظمة لا تخيف إلا التافهين. لقد أدركت رغم لهجتى النافرة نصف الصعيدية أني انتمى بحق إلى هذا النادي الأدبي الرفيع، فدخلته آمنا في سلام."
وحدثت المعجزة، كما يقول، فالتقى ضدفة بثالث العمالقة سلامة موسى، الذى يصفه بقوله " بقدر ما وجدت طه حسين مهيبا وعباس العقاد شامخا وجدت سلامة موسى متواضعا. كان غزير العلم فى غير تكلف ...ولم تكن هيئته تدل على شىء: كان يمكن أن يكون مدرسا بالمدارس الثانوية أو طبيبا أو رئيس مصلحة حكومية، ولكن ما أن يبدأ فى الكلام حتى يتدفق علمه الموسوعى ويتجلى ذكاؤه الحاد كالنصل القاطع ".
لقد تعلم لويس عوض من هؤلاء العمالقة واقتدى بهم فى مجال الأدب والفكروجقق لنفسه مكانة عالية فى نادى الثقافة الرفيعة. وهذا مثال واضح لدور القدوة فى حياة الشباب. لكن هذا النادى يضم أعدادا كثيرة من عباقرة الفكر والعلم فى مصر والعالم يسعدنى أن أقدم للقراء وللشباب خاصة بعض الأسماء هنا ونماذج لكتاباتهم وأتمنى أن يكون فى ذلك إغراءا لمزيد من البحث والتقصى والتعمق فى فهم قضايا الفكر والحياة. ويهمنى أن أشير الى كتابين عرضتهما هنا هما " كيف نقرأ ولماذا " لهارولد بلوم ثم كتاب " محاكمة سقراط " لمؤلفه آى,إف . ستون.
يحدثنا الأول عن القراءة من أجل المتعة ويشير الى بعض المبادىء التى تساعد على تحقيق ذلك، فإذا انتقلنا الى السؤال الخاص بكيفية القراءة، يجيبنا الكاتب بأنه لا توجد طريقة واحدة للقراءة الجيدة، وإن كان هناك سبب رئيسى يفرض علينا أن نقرأ . فالمعلومات المتاحة لا نهاية لها، فأين توجد الحكمة؟ إذا حالفك الحظ فسوف تلتقى بمدرس متميز يقدم لك المساعدة. لكنك وحيد فى نهاية المطاف، وعليك أن تمض دون وساطة من أحد. فالقراءة بفهم هى أعظم المتع التى تتاح لك فى أوقات العزلة وهى أعظم المتع الشافية لأنها تردك إلى الإختلاف سواء داخل ذاتك أومع أصدقائك. فالأدب الخيالى هو الإختلاف، وتبعا لذلك فإنه يخفف من الشعور بالوحدة.
فى النهاية نحن نقرأ وغايتنا العليا كما اتفق بيكون وجونسون وإمرسون هى تقوية النفس والتعرف على اهتماماتنا الأصلية. نحن نعيش تجربة المتعة، التى قد تكون سبباً يدفع علماء الأخلاق الاجتماعيين منذ أفلاطون حتى المتزمتين فى الجامعة الآن إلى الإنتقاص من القيم الجمالية. إن متعة القراءة متعة ذاتية وليست اجتماعية، فأنت لا تستطيع أن تصلح حياة شخص آخر عن طريق القراءة الأفضل أو الأعمق.
وفى رأيه أن الجامعات لم تعد تعلم القراءة الآن من أجل المتعة الجمالية، فالطفولة التى أضاعت وقتاً طويلاً فى مشاهدة التليفزيون تسلم نفسها فى سن المراهقة للكمبيوتر فتستقبل الجامعة طالباً لا يرحب بأى اقتراح يوجب علينه أن يتحمل عناء الحركة بين هذا وذاك. فالقراءة تنهارويتبعثر قدر كبير من النفس. كل هذا يقال عن الماضى، ولن يجدى فى إصلاحه أية عهود أو برامج لكن ما زال هناك القراء من الشباب و الشيوخ المتفردين فى كل مكان حتى فى داخل الجامعات، فإذا كانت للنقد وظيفة فى الوقت الحالى، فعليه أن يوجه إلى القارىء أوالقارئة المتفردة التى تقرأ إرضاء لنفسها، وليس بغية اهتمامات مفترضة تتجاوز حدود الذات.
1- طهر ذهنك من لغو الأكاديميين
أما عن طريقة القراءة الجيدة فهى تقوم على عدة مبادىء مستمدة من جونسون وامرسون وفرجينيا وولف وأولها" طهر ذهنك من لغو الأكاديمين" فالثقافة الجامعية التى يحتل فيها تقدير الملابس الداخلية لنساء العصر الفيكتورى محل تقدير ديكنز ويروننج انما تبدو ثقافة فاحشة لكاتب جديد مثل ناثانيل ويست. لأنه كيف يمكن لمثل هذه الثقافة أن تغذى المعارضة الساخرة وتطيل أمدها؟ إن قصائد الشعر النابعة من مناخنا حل محلها جوارب تنتمى لثقافتنا. فالماديون الجدد يقولون إنهم استعادوا الجسد من أجل الحقيقة التاريخية، ويؤكدون أنهم يعملون باسم مبدأ الواقعية. إن حياة العقل ينبغى أن تستسلم لموت الجسد.
2- لا تحاول اصلاح جارك بما تقرأ
إن تطهير العقل من اللغو يقود إلى المبدأ الثانى فى عملية استعادة القراءة. لا تحاول إصلاح أمر جارك بما تقرأ. فاصلاح الذات مشروع كبير بدرجة تكفى لأن يشغل عقلك وروحك إإذ يجب الإحتفاظ بالعقل فى حالة هدوء حتى يتطهر من جهله البدائى. وهو يحذرنا من إضاعة الوقت فى تفسير الأشياء فى ضوء تصورها التاريخى ويعتبر هذا نوعا من عبادة الأوثان ... ثم يقول أقرأ بالنور الداخلى الذى احتفى به جون ميلتون و الذى أخذه امرسون كمبدأ للقراءة، وهو ما يمكن أن يكون المبدأ الثالث: فالباحث هو شمعة سوف يضيئها حب الناس وتطلعات البشر جميعا. لكن الصياغة التى كتبها إمرسون تقدم بيانا أشد وضوحا للمبدأ الثالث الا تخشى من أن تكون حريتك فى التطور كقارئ نوعاً من الأنانية لأنك عندما تصبح قارئا أصيلا بحق، فإن استجابة الناس لأعمالك سوف تجعلك منارة حقيقية للآخرين.
3- الثقة بالنفس هى الميلاد الثانى للعقل
ففى رأى امرسون أن الثقة بالنفس مهمة للباحث، ولابد أن يكون الشخص مبتكراً لكى يقرأ جيداً. إن الثقة بالنفس ليست منحة وإنما هى الميلاد الثانى للعقل. الذى لا يمكن أن يتحقق بغير سنوات طويلة من القراءة العميقة.
4- البحث عن عقل أكثر أصالة
أما هاروولد بلوم فيرى أنه لا توجد مقاييس مطلقة للجمال. فإذا أرد ت أن تزعم أن السيادة الأدبية لشكسبير كانت نتيجة للاستعمار. فلن يهتم أحد بدحض رأيك لأن شكسبير بعد أربعة قرون صار أكثر انتشاراً عن ذى قبل، وسوف يمثلون مسرحياته فى الفضاء الخارجى، وفى العوالم الأخرى إذا وصل الناس إليها، لأنه ليس مؤامرة من الثقافة الغربية، بل إنه يحتوى على كل مبادئ القراءة. وهو محك الإختبار خلال هذا الكتاب كله. لقد نسب يورخيس هذه العالمية إلى الغياب الواضح لذاتية شكسبير، لكن هذه الخاصية استعارة كبيرة ترمز إلى اختلاف شكسبير عن الأخرين، وهى فى النهاية قوة معرفية فى حد ذاتها. نحن نقرا مراراً وتكرارا ولو بغير علم بحثاً عن عقل أكثر اصالة عن عقولنا.
5- استعادة السخرية:
والكاتب يحذرنا من الأيديولوجيا لأنها تعد عامل تدمير لقدرتنا على الفهم وعلى تذوق السخرية، ويقترح أن يكون خامس مبدأ فى عملية القراءة هواستعادة السخرية، إن السخرية هى مجرد استعارة والسخرية التى تميز عصراً أدبياً لا تصلح لعصر أدبى آخر، لكن بدون بعث أو إحياء الاحساس بالسخرية سوف يضيع منا شئ أكثر بكثير مما سميناه بالأدب الخيالى.
فالسخرية تتطلب قدراً محدداً من الإنتباه، كما تتطلب القدرة على قبول الآراء المتناقضة حتى لو تصادمت بعضها مع بعض، فإذا جردت القراءة من السخرية، فإنها تفقد انتظامها ومفاجاآتها. فالسخرية سوف تطهر عقلك من لغو الأيدولوجيات وثقافتها، وتساعدك على أن تتوهج كباحث بحمل شعلة واحدة مضيئة.
محاكمة سقراط
ولعل كتاب " محاكمة سقراط " يقدم لنا نموذج هذا الباحث المتوهج الذى يحمل الشعلة ويضىء الطريق للأخرين. فهذا الكتاب يمثل مغامرة فكرية مثيرة وغير مسبوقة فى مجالها، حيث يقوم المؤلف بمراجعة دقيقة وشاملة للثقافة الكلاسيكية والفكر الفلسفى الإغريقى بالتركيز على محور حرية التعبير والديمقراطية السياسية. ومن خلال محاكمة سقراط يكشف مستر ستون عن جوانب هامة فى الصراع بين سقراط وبين معارضيه من السوفسطائيين وقادة الديموقراطية، بل وعامة الشعب. وهى جوانب ظلت خافية حتى الآن، وكانت هى الفاعل فى تهيئة المناخ العام فى أعقاب الانقلابات الديكتاتورية لجر سقراط إلى المحاكمة بتهمة الإلحاد وإفساد الشباب والحكم عليه بتجرع السم فى سنة 399ق. م.
ولنا أن نتدبر خطوات هذا الباحث لنفهم ونتعلم كيف استاع أن يحقق هذا الإنجاز العظيم. فقصة هذا الكتاب لاتقل إثارة عن موضوعه. فقد كان المؤلف صحفياً مرموقاً من دعاة الحقوق المدنية وكانت مقالاته تنشر فى بعض الصحف الأمريكية الرئيسية مثل هاربرHarper، والأمة Nation ومجلة نيويورك ريفيو The New York Review of Books بالإضافة إلى مجلته الإخبارية التى كان يصدرها باسم Stone,s Weekly فى واشنطن وكذلك مؤلفاته الهامة.
فلما أضطر إلى التقاعد نتيجة الذبحة الصدرية عام 1971، انصرف إلى دراسة حرية التعبير على اساس اعتقاد راسخ عنده مفاده أنه لا يوجد مجتمع فاضل مهما كانت مقاصده ومهما كانت ادعاءاته الطوباوية والمثالية اذا لم يكن رجاله ونساؤه قادرين على التعبير علناً عما يدور فى عقولهم.
وبعد ان قطع الكاتب شوطا طويلا فى دراسة ثورات الإنجليز ضد الحكم المطلق فى القرن السابع عشر، وهى التى ساهمت فى تطور النظام الدستورى الأمريكى، اكتشف انه لا يستطيع فهم هذه الثورات دون الإلمام الكامل بحركة الإصلاح البروتستانتية. وكشف العلاقة الوثيقة بين الكفاح من أجل حرية التعبير. وفى سبيل هذه الغاية رجع إلى الوراء للبحث عن جذورها فى كتب المفكرين المغامرين الذين وضعوا بذور حرية الفكر فى العصور الوسطى حين تم اكتشاف أرسطو عن طريق الترجمات العربية والعبرية وما لحق بها من شروح وتعليقات فى القرن الثانى عشر الميلادى.
واسلمته هذه الترجمات إلى مصادرها الأولى فى أثينا القديمة، وهى اقدم المجتمعات التى إزدهرت فيها الديمقراطية وحرية التعبير بدرجة لم يصل إليها مجتمع سابق أو مجتمع لاحق حتى الآن. وحين رجع إلى هذه الأصول، وجد انه من الصعب الوصول إلى استنتاجات فلسفية وسياسية صحيحة بالاعتماد على هذه الترجمات، ليس فقط لأن المترجمين كانت تنقصهم الكفاءة بل لأن المصطلحات الإغريقية لم تكن فى اغلب الأحوال مطابقة لمرادفاتها فى اللغة الإنجليزية.
وبناء عليه، قرر الكاتب ان يدرس اللغة اليونانية القديمة، دراسة كافية تمكنه من حل معضلات النصوص الأصلية، وكما يقول مستر ستون، لأنه فى هذه الأصول فقط يمكن للباحث ان يقبض على دلالات الألفاظ بل وعلى ظلال المعانى الكامنة فى مطاوى هذه الألفاظ دائما. وقد استغرق هذا البحث سنوات طويلة. وكانت ثمرته هذا الكتاب المثير الرائع. والذى يصفه المؤلف بقوله:
" هذا الكتاب هو ثمرة هذا العذاب. لقد شرعت فى كتابته لكى اكتشف كيف أمكن لهذا الحادث المحزن أن يحدث (يقصد اعدام سقراط). لم استطع الدفاع عن الحكم عندما بدأت ولا أستطيع الدفاع عنه الآن. لكننى أردت ان اكتشف ذلك الذى لم يقله لنا افلاطون، لكى اعطى الأثينيين جانبا من القصة ولكى اخفف جريمة المدينة وامحو بهذه الطريقة، وصمة العار التى لحقت باثينا وبالديمقراطية من جراء هذه المحاكمة "
فهذا الكاتب الامريكى يهتم بتبرئة سقراط وبتبرئة الديمقراطية ومن ثم قدم دفاعا مجيدا عن حرية التعبير وعن الديمقراطية فى سياق يلائم مدينة أثينا فى عصر سقراط كما يلائم مجتمعنا المعاصر. هذه هى المعاناة الجميلة التى تصل بصاحبها الى نتائج باهرة وتجعل منه شعلة تتوهج فى محيط عمله وفى مجتمعه.