القمص يوحنا نصيف
    هذا المقال هو مقال روحي لاهوتي، لا يتكلّم فقط عن أمنا العذراء، بل يشرح أساسيّات هامّة في إيماننا المسيحي. حاولتُ تبسيطه بقدر المستطاع، ليكون مفهومًا ومُعَزِّيًا لكلّ مَن يقرأه.

    نقول في التمجيد الجميل للسيّدة العذراء:
    "السلام للإناء المستور، قبل كَوْنِ العالمين، المحتوي نور من نور، في حضن الآب كلّ حين."

    كلمة "مستور" تعني مُخفَى أو غير معروف، وقد تعني أيضًا أنّه مَحفوظ ومُصَان..

    أمّا كلمة "إناء"، فهي في المفهوم الإنجيلي تعني "هيكل الجسد"، فقد جاء في حديث القدّيس بولس عن القداسة "هَذِهِ هِيَ إِرَادَةُ ٱللهِ: قَدَاسَتُكُمْ. أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ ٱلزِّنَا، أَنْ يَعْرِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ أَنْ يَقْتَنِيَ إِنَاءَهُ بِقَدَاسَةٍ وَكَرَامَةٍ" (1تسا4: 3-4).

    مِن هنا نفهم أنّ المعنى المقصود في المديحة بالإناء المستور، أنّه جسد السيّدة العذراء، الذي أخذ الله منه طبيعته البشريّة، وسكن فيه تسعة أشهر.. فهذا الجسد أو الإناء الإنساني، هو مستور في ذهن الله قبل كون العالمين، وفي ملء الزمان جاء هذا الجسد للوجود.

    وعندما حلّ الروح القدس على أمّنا العذراء، تنازل الابن الوحيد، الذي هو نور من نور، والكائن في حضن الآب كلّ حين، وأخذ منها عجينة البشريّة، واتّحد بهذه العجينة لكي يشفيها ويرتقي بها.

    ولكن ما معنى أنّ هذا الإناء كان مستورًا قبل كون العالمين؟ هل كانت القدّيسة مريم موجودة قبل كون العالم؟!

    بالطبع لا، فهي إنسانة مخلوقة في الزمن.. ولكن يعلّمنا آباء الكنيسة أنّ كلّ الخليقة هي موجودة ومرسومة في ذهن الله منذ الأزل، ثمّ ظهرَتْ كمخلوقات في الوقت المناسب.. إذ أنّ الله يحوي في داخله كلّ شيء، ولا يتغيّر، ولا يستجدّ فيه شيء.. فالكلّ مرسوم في حكمته الأزليّة..

    أمّا الحقيقة التي ينبغي أن نفهمها جيِّدًا أنّ السيّدة العذراء مريم ليست هي وحدها التي كانت إناءً مستورًا قبل كون العالمين، بل كلّ واحد فينا أيضًا، بحسب ما كشف لنا الروح القدس على فم القديس بولس الرسول؛ أنّ الله "اخْتَارَنَا فِيهِ (في المسيح) قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلا لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ" (أف1: 4-5).

    هذا يعني أنّنا مختارون في المسيح قبل تأسيس العالم، لكي نكون قدّيسين.. وقد عيّننا الله للتبنّي، أي نكون أبناء بالتبنّي للآب عندما نتّحد بالمسيح الابن الوحيد (رو6: 3)، ونُغرَس في جسده بالمعموديّة (رو11: 17-24)..

    هذا هو قصد الله من خلقتنا، بحسب تعليم أبينا القدّيس أثناسيوس الرسولي (296-373م)، الذي يقول:
   + إنّ هذه هي النعمة التي أُعِدَت لنا من قبل أن نوجَد، بل ومن قبل تأسيس العالم، والتي تحدّث عنها الرسول بولس أيضًا قائلاً: "بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطِيَت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزليّة" (2تي1: 9).

   + نحن مختارون من قَبلِ أن نَخرُج إلى الوجود، لأنّنا كُنّا مرسومين سابقًا في المسيح (الذي هو حكمة الله) من قَبْلِ أن نوجَد.. والنعمة التي أُظهِرَت لنا، كانت مذّخَرة لنا في المسيح منذ الأزل!

   + لذلك كشف لنا الربّ يسوع نفسه أنّه سيقول في يوم الدينونة: "تعالوا إليّ يا مباركي أبي، رثوا الملك المُعَدّ لكم منذ تأسيس العالم" (مت25: 34). فكيف إذن أُعِدّ لنا الملكوت من قبل أن نوجَد؟ إلاّ في الربّ الذي جُعِل قبل الدهور أساسًا لنا، حتّى نصير مبنيّين عليه كحجارة متناسقة، فننال منه الحياة والنعمة التي فيه..

   + وهذا لم يكُن في إمكاننا أصلاً، حيث إنّنا بشر من تراب، لو لم يكُن رجاء الحياة والخلاص قد أُعِدَّ في المسيح من قبل الدهور.

       [القدّيس أثناسيوس الرسولي – ضدّ الأريوسيّين (2: 75-76)]

    من هنا نعرف أنّه كمّا أَعَدّ الله أمّنا العذراء، من قبل كون العالم، لتكون الإناء المختار الذي سيأخذ منه طبيعته الإنسانيّة ويسكن فيه؛ وقد كانت القدّيسة مريم أمينة جِدًّا في المهمّة التي كُلِّفَتْ بها.. هكذا نحن أيضًا خَلَقَنا الله لكي نكون قدّيسين، واختارنا لأعمال صالحة سبق فأعدّها لنا كي نسلك فيها (أف2: 10)؛ كلّ واحد بحسب موهبته!

    فكم ينبغي أن نفرح بأنّنا آنية مختارة (أع9: 15)، وقد نلنا نعمة التبنّي في المسيح يسوع، وصِرنا مسكنًا للروح القدس، فنتمّم مشيئة الله بكامل إرادتنا.. لكي نصير آنية مقدّسة للكرامة والمجد (2تي2: 21)، مِثل أمّنا العذراء الإناء المختار!
القمص يوحنا نصيف
أغسطس 2024م