ماجد سوس
إنّ المحاباة والكيل بمكيالين لأمرٍ خطير، إن ضَرب مجتمع هَدَمَهُ، وإن تَسرَّب إلى الأديان تَفشَّى معهُ الإلحاد. إن صدر مِن واعٍ، عَثرةً، وإن خَرج مِن جاهل، كارثةٌ. فكم مِن ارتداد حدثَ في التاريخ بسببه. والله لا يُحابي الوجوه، فالكل عنده واحد لا فرق بين نوع، أو جنس، أو لون، أو غنى أو حتى علم او حكمة أو دراسة.وكما نؤمن جميعاً بثلاثة أقانيم متَّحدين في جوهر واحد، هكذا الحياة في المسيح ثلاثة محاور يعيش بها المؤمن الواحد وهي الإيمان والمحبة والرجاء، إن سقط المسيحي مِن إحداها، سقطَ في الكل.   

ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في العصر الحديث فقدْ تَجِد الجاهل عالِماً، والعَالِم مُلتزماً الصمت لئلاّ يُهان. الأمر الذي أدَّى إلى انتشار ظاهرة تكفير الآخر وهرطقَتُه! والأصعب مِن هذا وذاك هو تحقيره وإهانته وتجريحه أمام أسرته وذوييه! وأصبحتَ مِن السهل أن تَجِد نفسك أمام شخص محدود الفكر، أو واهم أنه مفكر، وتجده يتطاول على بطريرك، أو على عَالِم، أو مؤرخ، أو أب كبير. يفعل هذا وهو يُردّد كلمات يُغَلّفها ويسلفنها بحماية الإيمان او حفظهُ، أو حماية الأرثوذكسية! وهذه الكلمات الرنانة يتلقّفها الإنسان البسيط دون بحث أو تمحيص، ولسان حاله، كيف لي أنا الضعيف أن أبحث وراء قائلٍ شهير أو شخصٍ تحبه نفسي. ناسياً، متناسياً أنه ما مِن كامل سوى الله وحده. فَمَن في التاريخ يا أعزائي، شرح الإنجيل كأوريجانوس، الذي حين دافع عن نفسه قائلا بأن هناك من أضاف وحذف كلمات مِن كُتُبِي لم أكتبها، لم يصدّقه أحد.   

عزيزي، من قال لكم إن سفينة النجاة لا تغرق، حتماً تغرق إن تركها ربُّانها. وهذا ما أهدِف إليهِ مِن هذا المقال، ان نجعل رباننا، روح الرب يقودنا كما قاد آبائنا، فتعود الكنيسة - كمؤمنين - لقيادة الروح الوديع، المتضع وهو الإله. المترفق وهو القادر، الغافر وهو القدوس   ظاهرة التحزبات خطورتها في رفع اشخاص فوق النقد، ونقد اشخاص ولو على حساب الحق. وتكمن المشكلة في عدم توقع او قبول فكرة أن يخطئ المُعلِّم او الباحث أو الراعي الشهير؟! متناسين أن الرب يسوع فقط هو الغير قابل للنقد في الكتاب المقدس فقد تنتقد داود في قتله وزناه وتنتقد بطرس في انكاره او في قطع اذن عبد رئيس الكهنة او تنتقد بولس في مقاومته بطرس مجاهرة امام الناس.

اعطاك الله حرية في ذاتك لتختار وتختلف وتنتقد كما تشاء على أن يكون الانتقاد بروح المسيح الوديع وبموضوعية وحيادية بروح التقوى والأهم في المحبة.

اليوم ادعوك ان نفتح معا بعض الملفات الشائكة التي يعتبرها البعض شائكة والتي تكاد ان تُفرِّقنا وتُمَزّق وحدتَنا وكيف ينظر إليها كل طرف وكيف علينا أن ننظر نحن إليها.

سأبدأ سلسلة، أبدأها اليوم معك، بموضوع [تأّلُّه الإنسان] والخِلاف حول اللفظ أم المعنى.

   والقصة بدأت من عند الرب يسوع حين أراد اليهود أن يرجموه فسألهم لماذا تريدون أن ترجموني فقالوا له لأنك جدّفت أي هرطقت وابتدعت، لأنك وانت إنسان تجعل نفسك إلهاً وهنا يسوع أجابهم إجابة عجيبة حيث قال لهم: أليس مكتوب في الناموس أنكم آلهة فإذا كان الله يُطلق على رجاله الذين صارت لهم كلمته "آلهة" فكيف تنقضون المكتوب في كتابكم وتغضبون أني قلت أيضا أني ابن الإله. أَجَابَهُ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: “لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَل حَسَنٍ، بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ، فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلهًا" أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: "أَلَيْسَ مَكْتُوبًا فِي نَامُوسِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟ وهنا قال لهم إن شريعتكم مكتوب فيها لفظ "آلِهَةٌ " يطلق على كل الذين وصلت إليهم كلمة الله، ثم سألهم كيف تنقضون المكتوب.

وعاد يسوع له المجد وطلب مِن الآب السماوي، في صلاته الختامية، من أجلنا أن نكون واحد فيهما.

 تَلَقَّف هذا الكلام مُعلمنا بطرس الرسول فكتَبَ لنا أننا قد وُهب لنا المواعيد العظمى والثمينة، لكي نصير بها شركاء الطبيعة الإلهية. " كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ، اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ، لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ"(٢بط١: ٣، ٤).

  بعدها بدأ آباء الكنيسة الشرقية يستخدمون هذا المفهوم الروحي العميق ويستخدمون نفس المصطلح الذي استخدمَهُ الرب يسوع مع اليهود واستخدمه بطرس الرسول مع الكنيسة وهو "تأّلُّه الإنسان "    Theosis "الثيئوسيس     

ووضعتَهُ الكنيسة في ليتورچياتها. فكتَبَ لنا الآباء في ثيؤطوكية يوم الجمعة " هو أخذ الذي لنا (جسدنا) وأعطانا الذي له (نشترك في طبيعته) نسبحَهُ ونمجدَهُ ونزيدهُ عُلواً. حتى أن القديس أثناسيوس الرسولي كتب عبارته الشهيرة: "الله صار إنسانًا لكي يصير الإنسان إلهًا" (كتاب تجسد الكَلِمة ، فصل ٥٤ ترجمة مركز دراسات الآباء).

 وحين ردت الكنيسة على أريوس في هرطقته عن العذراء واقنوم الابن، اسمتها والدة الاله ولم يهرطق أحد مجمع نيقية بحجة كيف تكون العذراء أماً للاهوت فهل هي إلهة، لأن الكنيسة بالطبع قصدت بهذا التعبير أنها والدة الإله الكلمة المتجسد. وليست والدة اللاهوت. هكذا تأله الإنسان ليس معناه ان الإنسان اصبح لاهوتاً وإنما اصبح ابناً للمسيح وشريكا له في طبيعة الخلود.

   بعدها جاءالقديس إيريناوس وشدد على فكرة أن الإنسان يُمكِنَه أن يشترك في الحياة الإلهية من خلال المسيح. وتكلم القديس كيرلس الكبير الملقب بعامود الدين، عن أن الطبيعة البشرية يمكن أن تتحد بالطبيعة الإلهية في شخص يسوع المسيح، مما يمكّن البشر من مشاركة الطبيعة الإلهية. والقديس غريغوريوس النيصي: تحدث عن الاتحاد بالله وعن الرحلة الروحية للإنسان نحو التشبه بالله .

على الجانب الآخر تحفظ على لفظ "التَّألُّه" بعض آباء الكنيسة الغربية وخاصة جيروم الذي لم يتطرق للفظ، وأوغسطينوس الذي ركز أكثر على نعمة التبني والعمل الداخلي للروح القدس في الإنسان بدلاً من الحديث عن "التَّألُّه" بنفس الطريقة التي تحدث بها الآباء الشرقيون

   أما في العصر الحديث، ففي البداية، كتب البابا شنودة الثالث فكرة "التَّألُّه" صراحة في كتابه الشهير "انطلاق الروح" وكتبها الأنبا موسى أسقف الشباب في إحدى مقالاته قبل رهبنته وشرحها الأنبا رافائيل في إحدى عظاته الحديثة وشرحها بوضوح العالم القمص تادرس يعقوب.   

الأمر ازداد صعوبة حين عاد البابا شنودة وتبنى فكر أوغسطينوس وجيروم فأزال السطر الذي ذكر فيه الفكرة في الطبعات التالية لنفس الكتاب المُشَار إليه. وعلى الرغم أن الأب متى المسكين في كتابه "النعمة والعقيدة النسكية" شرح فكرة "التَّألُّه" عند آباء الكنيسة مشيراً بكل وضوح أن: "التَّألُّه" عند الآباء لم يَزد عن كونهِ امتدادا لمفهوم التَّبني وهو الغاية النهائية مِن سِرّ التجسد. وان الآباء كتبوا مصطلح "التَّألُّه" باليونانية وكان اللفظ مستساغاً في هذا الوقت، وأوضّح ان استخدامه حالياً او استخدام التبني يؤدي نفس المعنى إلا أن البعض أصر صرارا عجيبا، لم يناد به أحد قط، أننا بالتأله نصير لنا صفات الله من الخلق والعبادة واللامحدودية.   

خلاصة الأمر، إنها رسالة لأقدمها لمن يتهم أحد بغير ما أبدى أو أعلن، أو من يأخذ القليل من سطور كتاب، أو كلمة من هنا أو هناك ليقيم منها بدعة او هرطقة تضعه تحت طائلة دينونة الله ، فلا هرطقة الكنيسة على مدى العصور اثناسيوس في طرحه للفكرة ولا هرطقة أوغسطينوس في عدم استخدامه لهذا المصطلح . أن تكون ابن الله او متأله في المسيح البكر بين اخوة كثيرين هما وجهان لعملة واحدة أهداها الله لمن يحبهم كي يكونوا أعضاء في جسده لهم الحياة والخلود.