عاطف بشاى

«يوسف إدريس» (١٧ مايو ١٩٢٧– أغسطس ١٩٩١) هو أمير القصة القصيرة، بل أعظم روادها الكبار فى القرن العشرين.. وقد فرض نفسه وظله الساطع عليها منذ أول مجموعة قصصية كتبها ونشرت عام (١٩٥٤) «أرخص ليالى» وهو لم يزل فى الرابعة والعشرين من عمره.. تميز أسلوبه البليغ باقتناص اللحظة الموحية والنقاط الخاطرة المدهشة بعين لاقطة وحس إنسانى عميق وقدرة هائلة على رصد التفاصيل.. وطرح المفارقات والدلالات المبهرة.. وارتياد عوالم مجهولة فى النفس الإنسانية المشتبكة بجذور الشخصية ودوافعها ومحتواها الاجتماعى السياسى والنفسى بل والفلسفى.. برؤية تتسع لتشمل دنيا رحبة ومتسعة وعميقة الغور والتنوع والإبهار.

 

«على ورق سوليفان» قصة قصيرة جميلة ورقيقة ذات محتوى إنسانى ساحر.. تحولت إلى فيلم سينمائى عن سيناريو وحوار لكوثر هيكل.. وإخراج حسين كمال وبطولة «محمود ياسين» و«نادية لطفى» و«أحمد مظهر».

 

البطلة زوجة جراح شهير.. عاشت معه عشر سنوات ثم داهمها الملل.. نوع من الملل الأرستقراطى الذى يصيب المدلالات على ورق سوليفان ويدفعها لأن تتجاوب مع آخر يطاردها.. ثم تستجيب لإلحاحه بأن يلتقيا.. وتتعدد اللقاءات والتى توشك أن تتحول إلى خيانة زوجية.. حتى ذهابها بطريق الصدفة لتمر على زوجها بالمستشفى الذى كان فى حجرة العمليات لكنه يسمح لها بالدخول وهو مستغرق فى عمله وحوله مساعدوه فيداهمها وكأنه رجل لا تعرفه.. هذه النظرة الثاقبة التى تنفذ فى أعماق مساعديه فتهتز أعماقهم.. هذا الوجه الذى لم يستطع حتى القناع الشامل أن يخفى الشخصية الطاغية التى تملكها ملامحه.

 

يصف «يوسف إدريس» فى نهاية قصته لحظات التحول الدرامى للزوجة حينما دخلت إلى حجرة العمليات لتتابع العملية الجراحية التى يقوم بها زوجها.. لا هو ولا الموجودون جميعًا.. لا أحد يشعر بها.. تتأمل أصابعه وهى غادية من الجرح.. إلى الآلات.. ومن الآلات إلى الجرح.. لا شىء هناك سوى أصابع تتحرك فى قفازها المطاطى.. أصابع طويلة نحيفة مركبة فى يد ملساء صغيرة تعرفها هى.. ما هذا المعجز فيها كما لو كان أعظم عازف كمان فى العالم يعزف والأنفاس معلقة بأنامله؟!. لا.. قلنا إبرة أرفع.

 

وطار ملقاط مركبة فيه إبرة فوق الرؤوس وسقط على الأرض قريبًا منها.. دق قلبها فى عنف من الشخطة قبل أن يدق من السقطة.. ماذا حدث له.. لم تره هكذا من قبل أبدًا.. إن شخطه مرعب.. على الأقل يرعبها فقد عاشت طوال عمرها مدللـة ملفوفة بورق سوليفان.. لم يقل لها أحد فى حياتها لأ.. إنها تحس الآن أنه رجل غريب تهابه.. تحس أمامه أنها فعلًا امرأة ضعيفة خائفة.. وما هذا الاهتمام العظيم الذى يبديه الآخرون بأصابعه الدقيقة ويده الصغيرة التى تشبه الفأر؟!. لا يمكن أبدًا أن تكون هذه أصابعه.. إنها يد وأصابع مختلفة تمامًا.. هذه كائنات رقيقة طويلة أخرى بالغة الحذق والنشاط تلتف على بعضها البعض.. تستدير.. تنحنى.. تلتقط.. تلضم.. تخيط.. تتفرق.. تتجمع.. تتحسس.. تتداخل.. تندس الآلات فى قبضتها تتحول إلى كائنات حية.. لا يمكن أن تكون هذه هى نفس الأصابع التى ما رأتها إلا مرتخية ومتثائبة.. أو حتى إذا نشطت فإنما نشطت لتعبث– فى أحيان نادرة– بشعرها هى وكأنها تؤدى واجبًا مدرسيًا، لكن أصابعه داخل غرفة العمليات أصابع تتعلق بها الأنفاس.. ولا بد أنها تقوم بأخطر عمل.. الخطأ الصغير يكلف حياة.. الصمت المخيم هو صمت نفس يخيم على معجزة تحدث وهو الذى يقوم أمامها بهذه المعجزة.. هذا الوجه لم يستطع القناع أن يخفى شخصيته الطاغية.. إنه مخيف.. مرعب.. رجل يمثل ما لم تحس به كرجل وهو فى قمة مزاولته للرجولة معها.. إنها تتضاءل.. وهو يكبر وتحيطه هالة قدسية.. هالة الرجل وهو يعمل.. هالة لم ترها أبدًا.. الدموع تتجمع فى عينيها.. إن كل ما تتمناه الآن أن يحادثها هذا الرجل المقدس وأن تعترف أمام الناس أنها له.. غفرانك وعفوك.. لو يسمح لها بتقبيل يديه الصغيرتين.. لو يسمح لها بتقبيل أقدامه.. أحست بالقناع مبتلًا حول أنفها وفمها.. الدموع تنهمر من عينيها.. أسرعت تريد الخروج.. وقفت عند الباب تستمع إليه وهو يشرح لزملائه ما فعل.. كل كلمة منه تستثيرها وكأنها لمسة حبيب راغب.. فى حنجرته زئير رجال.. وهى أمامه غزالة لا حول لها.. لو بمجرد حاجبه أشار لطاوعته فى الحال هنا وأمام الملأ.. انتهت العملية بنجاح.. الزملاء والمساعدون يهرعون إليه ويهنئونه بحرارة.. والزوجة وقد أدركت حقيقته التى لم تدركها من قبل.. صانعًا عظيمًا للحياة ورجلًا حقيقيًا قويًا يكمن الحب والسحر فى عينيه النافذتين وأصابعه الماهرة عندما يتحول إلى إله صغير يصارع الموت ويقهره ويمنح وقته حبه لشىء أكبر للناس، وأمام اكتشافها المذهل هذا تدرك الزوجة.. قيمة الكنز الذى كادت أن تخسره من أجل لحظات حب مزيفة.

 

 

استطاعت كاتبة السيناريو والحوار القديرة «كوثر هيكل» أن تحول هذا النسيج المرهق إلى بناء سينمائى جيد.. رغم الصعوبة الكبيرة فى خلق مادة بصرية وسمعية من عمل أدبى قائم على اللحظات الشعورية الرقيقة كورق السوليفان.

نقلا عن المصرى اليوم