القمص يوحنا نصيف
    كان المرتّل بطرس حنّا بولس يخدم في كنيسة مار جرجس سبورتنج منذ إنشائها تقريبًا، فقد التحق بخدمتها في منتصف عام 1960 بعد شهور قليلة من سيامة أبينا القدّيس القمص بيشوي كامل، واستمر يخدم بها حتّى نياحته عام 2003م عن 77 عامًا.. وكان مشهورًا بلقب "المعلّم نعيم". كان يتميّز بمميّزات عديدة منها الشخصيّة القويّة، والمواظبة على التناول، والقدرة على تأليف المدائح والأشعار.. وكان لديه أيضًا نقطة ضعف وهي التدخين..

    وإذ كان ضريرًا كنت أساعده أحيانًا في التحرّك مِن وإلى منزله، أو أذهب معه إلى خدمة الأكاليل والجنازات خارج الكنيسة..

    في مساء يوم في منتصف الثمانينيّات كنّا نصلّي إكليلاً بكنيسة مار مينا فلمنج، وبعد انتهائه خرجنا إلى فناء الكنيسة الخلفي استعدادًا للتحرّك نحو محطّة الترام.. وهو أخرج سيجارة وبدأ يدخِّن، بينما كنت أنا أتكلّم مع أحد الأشخاص وأقوم بخلع التونية، وقد دخل إلى الكنيسة عروسان آخران ليبدآ في صلوات إكليلٍ تالٍ.

    في تلك الأثناء حضر قدس الأب المبارك القمص أرسانيوس عزيز سِرّي كاهن كنيسة الأنبا تكلا بالإبراهيميّة (تنيّح عام 2011 بكندا بعد خدمة عظيمة مؤثّرة في الإسكندريّة وأمريكا وأستراليا وكندا).. دخل إلى الكنيسة من باب آخَر دون أن نراه، وصلّى جزءًا صغيرًا من الإكليل التالي لنا، ثمّ خرج من الباب البحري للكنيسة مغادرًا عن طريق الفناء الخلفي.. وكنت وقتها واقفًا مع المعلّم نعيم في وسط هذا الفناء، وهو قد انتهى لتوّه من سيجارته، ولا تزال رائحة الدخّان في يديه، ونحن نستعد لمغادرة فناء الكنيسة..

    فعندما رأيت "أبونا" متّجهًا إلينا، نبّهت المعلم نعيم قائلاً بهدوء: "أبونا أرسانيوس جاي يا معلّم" وكان أبونا مسرعًا ناحيتنا وعلى وجهه ابتسامة عريضة.. وعندما اقترب، فتح ذراعيه قائلاً بفرح: "معلّم نعييييم" وأخذه في حضنه، ثمّ انحنّى بسرعة وقبّل يده. ولأنّ المعلّم لا يراه فقد فوجئ بأنّ أبونا يقبّل يده.. فكان الموقف كالصاعقة عليه.. ولم يَدرِ ماذا يقول غير كلمة: ليه كِده يا أبونا.. ليه كِده يا أبونا؟!! وقبّل يد أبونا وقبّلت يده أنا أيضًا، ثم أكمل أبونا طريقه للخارج بسرعة ووجهه يفيض بالفرح.. وكلّ هذا تمّ في أقلّ من خمس ثوانٍ!

    تحرّكنا من الكنيسة في صمت سائرين في الشارع الخلفي تجاه الترام، وكان المعلّم نعيم يكلّم نفسه في تأثُّر شديد.. "ليه بس يا أبونا؟ ليه كده؟ إنت تبوس إيدي؟!" وهو يحاول أن يمنع نفسه من البكاء.. وظلّ يكرّر هذا الكلام عدّة مرّات، بينما ظللتُ أنا صامتًا احترامًا لمشاعره طوال الطريق، وفي الترام، حتّى أوصلته إلى منزله..

    كان هذا الموقف عجيبًا بالنسبة لي ومملوءًا بالدروس..

    أهمّ ما لاحظته هو العفويّة والبساطة الشديدة التي تصرّف بها أبونا أرسانيوس في لقائه الخاطف معنا وتقبيله ليد المعلّم الكفيف، وكأنّه قد أخذ بركةً كبيرة منه؛ ثمّ مغادرته بنفس البساطة والسرعة!

    لقد انكشف أمامي معنى القلب المتواضع الوديع الذي يطلب البركة من كلّ إنسان ولا يدين أيّ أحدٍ..

    وفهمتُ أيضًا أنّ الفرح يأتي كثمرة للاتضاع، والانحناء لتقبيل الأيدي أو لغسل الأقدام..

    وتذكّرت القول الجميل "بارك كلّ أحد، واجعل كلّ أحدٍ يباركك".

    لقد كان موقِفًا لا يُنسَى!!
القمص يوحنا نصيف