عاطف بشاى
فى زماننا السعيد الراهن تبزغ بزوغا مترديا طحالب شائهة تشكل لغة جديدة فى إطار مفردات لغوية ضالة تناهض لغتنا العربية الجميلة تسعى إلى تشويهها وتدعو إلى ازدرائها.. تتمثل هذه المفردات فى مرادفات وتشبيهات وكلمات غريبة وكليشيهات لا تعبر تعبيرا صحيحا عن المعنى المقصود والتعبيرات المرتبطة بالمحتوى، بل كثيرا ما تنحرف إلى عكسه انحرافا مزريا فى ادعاء ذميم للتجديد أو التبسيط أو التحرر من الحذلقة أو اللغو المتدثر بالاستعلاء والترفع.. والأمثلة على ذلك لا حصر لها تنطق بها شرائح اجتماعية مختلفة من القمة إلى القاع من شباب متعلم إلى أميين جهلة.. من طبقات برجوازية إلى رعاع وسوقة وعابرى سبيل.. بل من بعض الإعلاميين إلى رجل الشارع..
وتتحكم آفة النقل من فئة إلى أخرى فى انتشار المصطلح السخيف وتحويله إلى مسلمات راسخة ينطق بها الجميع كالبغبغانات دون تدبر، أو تمييز، أو تفكير، أو استناد إلى عقل أو منطق.. ففى إعلان تلفزيونى يروج لنوع من الجبن يؤكد التعليق المكتوب أنه أجدع «جبنة»، وقد ضاقت بالمعلن كل المرادفات التى تزخر بها لغتنا الجميلة من جودة ومذاق حسن. وبين المعلقين الرياضيين حدث ولا حرج...
فجميعهم دون استثناء يصفون اللعب الجيد بالشراسة الهجومية غافلين أن الشراسة صفة بغيضة تعنى العدوان والإجرام.. كما يصفون جدية اللاعب وجسارته بأنه «ياكل النجيلة» غير أن أكل الأعشاب لا يناسب البشر بل الحيوانات.. وآخرون يستخدمون كلمة «يمكن» بشكل متكرر ودون وعى ودون معرفة بمكانها فى الجملة.. فالمراسل الكروى يقول وهو يقف فى الملعب «يمكن أنا واقف فى الملعب الآن» و«يمكن النتيجة الآن ثلاثة صفر».. وإذا أراد المحلل الكروى أن يوكد أن لاعبا بعينه قد أجاد يهتف «هو لاعب رائع إلى حد ما» وليس إلى حد كبير أو «الفريق الفائز امتاز لاعبوه بالبراعة إلى حد ما» وهكذا.
وتدعونا هذه الردة اللغوية المستشرية البغيضة إلى استرجاع الزمن الجميل وتذكر المعلق الكروى البليغ «ميمى الشربينى» الذى كان يستخدم فى تعليقه على المباريات التشبيه والاستعارة والجناس والطباق والبيان وجميع أشكال المحسنات البديعية والزخرف اللفظى، فيرى فى «حازم إمام» أنه «إكسترا» مهارات وعنقود إبداع تلتف حول قدميه.. وعن «الخطيب» بأنه يستخرج الكثير من مستودع موهبته ويغازل حبات المطر، و«حسام حسن» أنه «بابا نويل» الكرة المصرية الذى يرتقى فوق الجميع ويعطى الإذن لرأسه لتظهر فى الفضاء.
وفيما يتعلق بازدراء اللغة العربية والاعتداء القبيح على مفرداتها وتفشى الجهل المروع بأبجدياتها وقواعدها الأولية التى يدرسها التلاميذ فى المرحلة الابتدائية.. فإن التعبيرات والألفاظ المغلوطة التى يستخدمونها لا تتصل فقط بنصب الفاعل وجر المفعول به.. ولكن فى المفردات اللغوية الغريبة التى تتناقض مع المعنى المقصود.. وجرثومة «النقل» والتلقين أصبحت آفات منتشرة وشائعة فى كافة المجالات والمصالح الحكومية والمؤسسات المختلفة والخدمات والوظائف والملاعب والملاهى والبنوك.. يمكننا أن نرصد منها مثالين أولهما متصل بموقف أخير حدث معى؛ فقد اتصلت بخدمة العملاء.. صارخا فى جزع «إلحقونى.. حصلت لى مصيبة».. فبادرتنى الموظفة مقاطعة: «تمام»
عاودت الصراخ: فقدت بطاقة الـ ATM وأريد...
قاطعتنى بآلية: تمام
فقدت أعصابى وألقيت بالموبايل فى الأرض... وقد فهمت فيما بعد أن كلمة «تمام» يلقنهم إياها الرؤساء فيرددها الموظفون كالبغبغانات بصفتها تعليمات ومسلمات ثابتة المقصود بها «لقد سمعتك.. تحت أمرك»!.
المثال الثانى يتصل بسلوك العامة وهو مقرون بشكل مباشر برغبة فرد فى الاطمئنان على حالة آخر سواء كان زميلا أو صديقا أو قريبا.. فيبادره عوضا عن عبارات «إزىّ الصحة».. «كيف حالك؟!» «لعلك بخير».. «طمنى عليك».. إلخ.. بكلمة «إنت كويس!؟» التى تستخدم كلازمة لغوية سريعة ومقتضبة وبلا تفاصيل حتى صارت تقال فى كل المناسبات سارة أو حزينة.. مبهجة أو كئيبة.. فمن الطبيعى إذا ما صدمت سيارة مواطنا فهرع إليه عدد من المارة وتحلقوا حوله أن يبادروه تباعا وهو ملقى على الأرض فى غيبوبة والدماء تنزف من جسده متسائلين:
- «إنت كويس؟!».
نقلا عن المصرى اليوم