د.سامح فوزى

يعكس النقاش العام فى أى مجتمع الحالة الذهنية، والنفسية، واهتمامات الناس، ولاسيما النخبة. فى الأيام الماضية قفز على سطح الأحداث حديث حول التغيير فى منظومة التعليم، فى ضوء قرار وزير التربية والتعليم بإعادة تنظيم المرحلة الثانوية، وما حدث من دمج وحذف وإضافة لمواد وأنشطة. أبرز ما شغل الناس هو تحويل مادة اللغة الأجنبية الثانية والجيولوجيا وعلم النفس إلى مواد نجاح ورسوب، لا تُضاف إلى المجموع، وإلغاء تدريس الفلسفة والمنطق عامة، فضلا عن مادة الجغرافيا فى الصف الأول الثانوى، والاكتفاء بها فى التخصص الأدبى فى الصفين الثانى والثالث الثانوى، وإضافة مواد جديدة مثل البرمجة. وقد انصب الجانب الأكبر من النقاش على وسائل التواصل الاجتماعى، حيث عبر الناس عن آرائهم وانفعالاتهم ومخاوفهم، واتسمت ردود الأفعال بتكرار نفس المضمون، باستثناء نماذج قليلة، صدرت فى الغالب عن متخصصين. ولا يمثل الحديث بهذه الكيفية مفاجأة، حيث يكاد يكون هو النمط السائد فى أغلب النقاشات العامة خلال الفترة الماضية.

 

من ناحية أولى، غلب على النقاش التناول السريع لتفاصيل القرار، دون السؤال عن أهداف وغايات التغيير، فأصبح الحديث هل الفلسفة مهمة أم لا؟وماذا يستفيد الطالب من دراسة المنطق؟ وحدث خلط بين قرار وزير التعليم الذى نشر بالجريدة الرسمية، وبين ما صدر عن أحد الإعلاميين عشية صدور القرار من رأى ينطوى على استهانة بمادتى الجغرافيا والتاريخ، وتداخل الأمرين فى أذهان قطاع من الناس، كما ظهر فى تعليقاتهم. وفى تقديرى أنه كان ينبغى على كل من أدلى بدلوه فى النقاش ألا ينشغل بالتفاصيل فى البداية قدر انشغاله بأهداف التغيير، وفى أى مجرى يصب، ثم يأتى بعد ذلك النظر فى مشتملات القرار.

 

من ناحية ثانية ذهب جانب معتبر من النقاش إلى انتقاد وزير التعليم أكثر من الحديث عن سياساته وآرائه التى نتفق أو نختلف حولها. وإذا كان نقد الشخصيات العامة مُباحا دستوريًا، ومرغوبا ديمقراطيًا، وقد تعرض الوزير إلى نقد شديد منذ توليه الوزارة، فإنه من الأهمية مناقشة القرارات والسياسات أكثر من قصر الحديث على نقد الاشخاص. أتذكر فى منتصف سبعينيات القرن العشرين شغلت قضية هضبة الأهرام اهتمام المجتمع، وانخرط عدد كبير من المثقفين فى الحديث عنها، وانشغلت النقابات المهنية بها، ولاسيما نقابتى المحامين والمهندسين، وقُدم استجواب مهم فى مجلس الشعب آنذاك، وأفضت جهود المثقفين، المبنية على نقد المشروع، وبيان ما به من عوار إلى إلغائه. أهم درس يستطيع الباحث استخلاصه من النقاش العام حول هذه القضية هو أهمية دراسة أى موضوع بعمق، وبناء الآراء على معرفة موثقة، وطرح الحجج والأسانيد، دون الانخراط فى مساجلات شخصية لا طائل من ورائها.

 

ومن ناحية ثالثة، حمل جانب من الحديث حول نظام المرحلة الثانوية الجديد نكهة المصالح الذاتية. بالطبع نتفهم أن يشعر البعض بأن مصالحه تضررت من جراء التغيير، مثل المدرسين الذين يقومون بتدريس مواد ألغيت أو لم تعد تدخل فى المجموع، مما أضعف وضعها فى سوق الدروس الخصوصية، وكذلك شعور بعض المثقفين وأساتذة الجامعات فى مجال العلوم الانسانية بأن هناك تهميشا لتخصصاتهم العلمية، ولكن إذا كان هناك متضررون، فإن هناك مستفيدين وهم قطاع عريض من أولياء الأمور، يشغلهم حصول أبنائهم على شهادات، وشعروا بأن النظام الجديد يتسم بقلة عدد المواد الدراسية، مما يخفف عن كاهلهم الدروس الخصوصية.

 

ومن ناحية رابعة غلب على حديث الناس على وسائل التواصل الاجتماعى ردود أفعال انتفاضية تتمثل فى الغضب، والتعليقات الساخرة أو اللاذعة، التى استمرت عدة أيام، ثم خفتت فى انتظار قضية جديدة نواجهها بنفس طريقة «التيك أواي»، التى باتت تغلب على ردود أفعالنا، ولا تسمح ببناء معرفة تراكمية، أو آراء مدروسة.

 

 

واقع الحال، كنت أتمنى أن ينصب النقاش على عدد من الأسئلة المحددة تتصل بالطريقة التى اعدت بها وزارة التربية والتعليم النظام الجديد، وما إذا كان نتيجة دراسة وافية، ونقاش معمق مع المختصين وأصحاب المصلحة أم غلب عليه الرغبة فى التغيير، وكفى؟ وكم من سياسات وقرارات طبقت فى السابق لم تحظ بنقاش جاد، ولم تحقق نتائج، بل اثرت سلبًيا. ولماذا لم يطرح القرار على البرلمان بمجلسيه النواب والشيوخ، ويضم كلاهما متخصصين فى الثقافة والتعليم؟هل أدلت كليات التربية بالرأى فى هذا النظام؟ وهل كان لنقابة المعلمين دور فى الحوار؟ لماذا لم يٌطرح المشروع على الحوار الوطني؟ الاجابة عن هذه الأسئلة تكشف إلى حد بعيد آلية صنع القرار، والتصورات الحكومية بشأن مستقبل التعليم، وهى قضية تحتاج إلى وضوح فى الطرح على الرأى العام.

نقلا الاهرام