القمص أثناسيوس فهمي  جورج
تمر ذكري نياحته في (٢١ أغسطس ١٩٥١ )، ولا زال الأرشيدياكون "حبيب جرجس" باقيًا في ذاكرة النهضة الكنسية المعاصِرة، كظاهرة وقِيمَة ورمز في دفع مسيرة الكنيسة إلى الأمام، بعد أن عرَف القيمة الأبدية للإصلاح، وقدَّم حياته كاملة من أجل بيعة الله المقدسة. عاش الوصية كما يحق لإنجيل المسيح، وكان هو عظة عاملة في العمل على تغيير ما شاخ، وطوَّر المؤسسات والخدمات الكنسية مستشرفًا المستقبل، فعمل في كل الحقول على اتساعاتها، واستيقظت معه ريح الشمال والجنوب، وهبَّت على جنّة الكنيسة وقطَّرت أطيابها الزكية.
 
حبيب جرجس رجل الكنيسة وخادمها، عمل من الكنيسة وفي الكنيسة وبالكنيسة، وخدم خدمة الروح والبر والمصالحة... لذا أنجز به الله الكثير، وصار عميدًا للكلية الإكليريكية ومؤسسًا للتربية الكنسية (مدارس الأحد)، وسلك بقانون الروح، فحَلّ عليه سلام ورحمة. تناهى في البذل وصار باكورة موكب التكريس والتدريس والكتابة والوعظ، محققًا دورًا تاريخيًا مكتوبًا بأحرف نورانية عبْر الأجيال عن اشتراك العلمانيين مع الإكليروس في العمل الكنسي كممارسة رسولية أصيلة. فكان موضع ثقة البابا كيرلس الخامس وكان تلميذه وشماسه الخاص، وحاز ثقة خلفائه الأماجد البابا يؤنس التاسع عشر اﻠ (١١٣) والبابا مكاريوس الثالث اﻠ (١١٤) والبابا يوساب الثاني اﻠ (١١٥).
 
ومثلما اهتم بالكلية الإكليريكية وربطها بمدرسة الإسكندرية اللاهوتية مَهْد اللاهوت في العالم، اهتم بتأسيس مدارس الأحد التي صارت مدرسة ورِئة الكنيسة حتى يومنا الحاضر... كذلك صار عضوًا مرموقًا في المجلس الملي على مدى ثلاث دورات متتالية، فهو لم يترك مجالاً يمكن أن يخدم به كنيسته دون أن يطرقه. ابتعد عن الهدم والتشهير وأضاء شموع كثيرة في مجال الصحافة والمجلات القبطية (مجلة الكرمة ومجلة مدارس الأحد)، وفي تدريس الدين المسيحي بالمدارس، وفي تلمذة قادة وروّاد حملوا معه الشعلة وساروا بها من بعده، لهذا قال عنه قداسة البابا شنودة الثالث "أبٌ أنت، ونحن يا أبي عشنا بالحب على صدرك نحبُو".
 
قاد الأرشيدياكون "حبيب جرجس" اللجنة العليا للتربية الكنسية من أجل تأسيس الفروع ووضع المناهج والبرامج لكل المراحل السنّية في كل فروع القطر المصري – والتي تشرفتُ وتباركتُ بعضويتها في التسعينات – كذلك حرص على نشر الآبائيات والكتب اللاهوتية الكنسية، وبلغت كتاباته سبعة عشر مؤلفًا. فقد كانت الكنيسة عنده هي منبع الصلاح والإصلاح.
 
لقد كان "حبيب جرجس" رجل مبادئ وعمل، لذا أخلص في خدمة الحقل الكنسي من أجل إعداد الرعاة والخدام، فكان شماسًا وخادمًا وواعظًا ومعلمًا ولاهوتيًا ومنوِّرًا غيورًا... عاش متبتلاً مكرسًا، وأفنى عمره لخدمة التعليم اللاهوتي في الكنيسة على كل المستويات وبأكثر تدقيق... حتى حُسب باعث النهضة الكنسية المعاصرة، وصاحب العلامة المضيئة في مرحلة المخاض، باعتبار أن ما قام به في ذلك الزمان من أعمال غير معتادة، بل وتندرج تحت الأعمال الصانعة للتاريخ والتي شكَّلت نقلة مباركة في مسيرة التكريس الروحي من حيث ريادتها وإلتهابها الفكري، وما حملته من إلهام ومنهجية مميزة، بنى عليها بناء مؤسسات ثابتة للعمل الكنسي، تستمر وتتواصل في العطاء العام لحياة الكنيسة.
 
كان شعاره (الراعي الصالح هو الهدف، والإكليريكية هي الوسيلة) وتشكلت رؤيته بمحوارية التعليم اللاهوتي لنمو مجد الكنيسة التليد، لذلك اعتبر أن المؤسسات هي قلب الكنيسة النابض، وهو الآن حي في وجدانها، بدأ فيها وكانت غايته، عارفًا كل ما يتصل بها في ماضيها وحاضرها، وعقائدها وطقوسها... يعرفها معرفة حية أصيلة، شماسًا بكل ما في الكلمة من مضمون كنسي.
 
إن غَيْرة وريادة وتقوَى الأرشيدياكون "حبيب جرجس" تاج على رأسه وإكليل سيظهر به في الأبدية... وجميعنا مَدِينون له بالفضل ولخدمة الإكليريكية والتربية الكنسية، وستبقىَ غالية نفيسة عبر مسيرة الدهر كله، وصفحة مزينة في تاريخنا القبطي الحديث، وعلامة هادية لكل من يعمل من أجل البنيان والتجميع في سفينة النجاة، وليعطِنا الله نصيبًا من أرواح هؤلاء الرُوَّاد كي نقوم ونبني.