كتب - محرر الاقباط متحدون 
القى البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي بطريرك لبنان عظة في الأحد الخامس عشر من زمن العنصرة.
 
"مغفورة لها خطاياها الكثيرة لأنّها أحبّت كثيرًا" (لو 7: 47) .
 
 إيمان وحبّ وتوبة. ثلاثة مترابطة يعلّمها الربّ يسوع في حادثة الإنجيل. امتدح يسوع إيمان المرأة الخاطئة وحبّها وتوبتها، وبادلها غفران خطاياها بحبّ أكبر.
آمنت المرأة بيسوع، وأدركت أنّه قادر على أن يغفر خطاياها ويشفيها، لكي تبدأ حياة جديدة. ولهذا قصدته في بيت سمعان الفريّسي. استعدّت للتوبة، وقصدته بحبّ وثقة.
يسعدني أن أحيّيكم جميعًا، وأن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة. وأرحّب بنوعٍ خاص برابطة كاريتاس بشخص رئيسها الاب ميشال عبود ونائبه على رأس اقليم كاريتاس-الجبّة المشاركة معنا، رئيسًا وهيئة إداريّة وأعضاء. إنّ رابطة كاريتاس هي جهاز الكنيسة الراعوي الإجتماعيّ في لبنان. وتعمل باسم الكنيسة في خدمة المحبّة. والكنيسة تساندها وتوجّه إليها جميع المساعدات، وكاريتاس توزّعها من خلال أقاليمها ومراكزها على جميع الأراضي اللبنانيّة. أمّا الكنيسة فتتفرّغ لخدمة الكلمة وتوزيع نعمة الأسرار، وتقديس النفوس. إنّنا نصلّي على نيّة كاريتاس والمحسنين وجميع العاملين فيها إدارةً وأعضاء ومتطوّعين كشبيبة كاريتاس ومحسنين من داخل لبنان وخارجه، لكي تعضدها العناية الإلهيّة في مهمّتها الصعبة والكبيرة والمتشعّبة.
كما أرحّب بكشّافة لبنان-فوج مار يوسف قرنة شهوان. إنّهم ينتمون إلى مدرسة القدّيس يوسف التي نقّدرها لمستواها العلميّ الرفيع. نتمنّى للكشافة ولطلّابها الخير والنجاح وضمانة مستقبل أفضل.
 
 لقد قامت تلك المرأة بمبادرة تعبيريّة مزدوجة، غنيّة بالمعاني:
أ- المبادرة الأولى، وقفت باكية عند قدمَي يسوع تبلّلها بالدموع. هي علامة انسحاق القلب والندامة. ندمت عن حياتها الماضية وعن الخطايا التي شوّهتها. بكت على حالها وماضيها، وأسفت وقرّرت تغيير مجرى حياتها. وبكت خجلًا على ما فعلت، وفي قلبها إيمان بأنّ يسوع سيتفهّمها ويغفر لها. الندامة هي هذا الإنسحاق في القلب والأسف على الحالة السيئة وعلى الماضي، وفي طيّات الندامة قرار حاسم بتغيير مجرى الحياة وطريقة عيشها، وإصلاح الحال.
ب- المبادرة الثانية، راحت تنشّف قدميه بشعرها وتقبّلها وتدهنها بالطيب. هي علامة حبّها الكبير ليسوع، وجعلت حبّها له فوق كلّ الأشياء والأشخاص. بفعل الحبّ الصامت والتعبيري في آن، كانت تقرّ بخطاياها وتلتمس المغفرة.
أمّا يسوع فبادرها بغفران خطاياها قائلًا: "مغفورة لك خطاياكِ ... إيمانكِ خلّصكِ! إذهبي بسلام!" (لو 7: 49-50).
 
تساءل الجالسون إلى مائدة سمعان الفريسي في أنفسهم: "من هو هذا الذي يغفر الخطايا أيضًا؟" (لو 7: 49).
يسوع الكاهن الأزليّ، الإله الذي صار إنسانًا، له سلطان ليغفر الخطايا. لكن الحاضرين لم يكونوا يعرفون يسوع إله متجسّد. صحيح أنّ الله وحده يغفر الخطايا، كما أقرّ مرّة علماء الشريعة، عندما قال يسوع لمخلّع كفرناحوم "مغفورة لك خطاياك" (مر 2: 5-7). هذا الإقرار مهمّ بحدّ ذاته وأساسيّ، لأنّه أوّلًا إقرار بالخطيئة، التي فقد معناها كثيرٌ من الناس، حتى أنّهم لا يقرّون بها، على الرغم من الشرور والاعتداءات على الله والإنسان التي يقترفونها، وعلى الرغم من مخالفة وصايا الله المتمادية والمتكرّرة. والسبب هو أنّهم فقدوا معنى الله، لدرجة إقصائه عن حياتهم، وعدم الاعتراف بأنّه وضع للبشر، كلّ البشر، وصايا ورسومًا لاتّباعها في حياتهم.
 
 بما أنّ يسوع هو إبن الله، يقول عن نفسه: "إبن الإنسان له السلطان ليغفر الخطايا على الأرض" (مر 2: 10). وهكذا مارس سلطانه الإلهيّ بقوله للمخلّع: "مغفورة لكَ خطاياكِ"(مر 2: 5)، وللمرأة الخاطئة: "مغفورة لكِ خطاياكِ" (لو 7: 48).
وبقوّة سلطانه الإلهيّ، أعطى الربّ يسوع سلطان الحلّ من الخطايا للبشر الذين أقامهم في الكهنوت لكي يمارسوه باسمه. فليلة قيامته من بين الأموات، وقد أجرى بموته على الصليب فداء الجنس البشريّ، وبثّ الحياة الجديدة بقيامته، أعطى رسله كهنة العهد الجديد هذا السلطان باسمه: "خذوا الروح القدس: من غفرتم له خطاياه تُغفر له، ومن منعتم عنه الغفران يُمنع عنه" (يو 20: 22-23).
 
 إنّ أعظم ما ترك لنا الربّ يسوع هو المصالحة. ففي بيت سمعان الفرّيسيّ تمّت مصالحة المرأة مع ذاتها ومع الله بمغفرة خطاياها، ثمّ مع الجماعة الحاضرة في البيت. فكانت نتيجة المصالحة السلام: "إيمانك خلّصك، فاذهبي بسلام" (لو 7: 50).
 
المصالحة هي حاجة مجتمعنا اللبنانيّ، فمعها تنتهي حرب المصالح الشخصيّة التي هي أخطر من الحرب المسلّحة. المصالحة تبدأ مع الذات بترميم العلاقة مع الله، وبتغيير المسلك والموقف والنظرة؛ وترتقي إلى مستوى المصالحة الإجتماعيّة بحلّ الخلافات والنزاعات وسوء التفاهم. ثمّ تنتقل إلى المصالحة السياسيّة بإعادة بناء دولة الوحدة الوطنيّة ودولة الحقّ والقانون الصالحة والعادلة. وتبلغ كمالها بالمصالحة الوطنيّة بانتخاب رئيس للجمهوريّة يسهر على الوحدة الوطنيّة، ويحمي الدستور والميثاق، ويحصّن العيش معًا ومشاركة الجميع العادلة والمنصفة والمتوازنة في إدارة شؤون البلاد العامّة.
 
 فليُسمح لنا الكلام مارونيًا ولو لمرّة، عن إقصاء الموارنة عن إدارة الدولة، بدءًا من عدم انتخاب رئيس للجمهوريّة منذ سنتين حتى الآن، في أخطر مرحلة يمرّ فيها لبنان. فيجب التذكير بالمرحلة الذهبيّة التي كان زمام الحكم فيها بيدهم. فلنتذكّر المرحلة الذهبيّة في العلاقات بين الطوائف المسيحيّة والإسلاميّة، وبين لبنان والعالم العربي، وبين لبنان والعالم الإسلامي. فلنتذكّر جمال الصيغة اللبنانيّة بمفهومها الميثاقيّ سماحةً في التطبيق وبساطةً في التعايش، وحريّةً في الممارسة العامّة. فلنتذكّر كيف كان رؤساء حكومة لبنان يخاطبون ملوك ورؤساء العرب من الندّ إلى الندّ. كانوا أصدقاءهم ومحاوريهم وجلساءهم. كانوا رسلَ لبنان إلى العالم العربيّ، أمثال رياض وسامي وتقيّ الدين الصلح، وصائب سلام وعبدالله اليافي ورشيد كرامي وشفيق الوزّان. وكيف كان رؤساء المجلس النيانيّ مثلًا صبري حماده وعادل عسيران وكامل الأسعد وحسين الحسيني. فلنتذكّر حين أحاط، إبتداءً من أواخر القرن السادس عشر، الأمراء المعنيّون فالشهابيّون أنفسهم، ولا سيما الأمير فخر الدين المعنيّ الثاني (1572-1635)، بالنخب المارونيّة المدنيّة والكنسيّة. لقد أمّن لهم الموارنة الفكر السياسيّ، والتنظيم الإداريّ والاقتصادي، والقوّة العسكريّة، والعلاقات الديبلوماسيّة مع أوروبا، ما شكّل حماية لإمارة الجبل في وجه السلطنة العثمانيّة.
 
ويكشف مسلسل الأحداث أنّ ما اهتزّت وحدة لبنان إلّا مع إضعاف دور الموارنة وتهميشه. وتقتضي الموضوعيّة التاريخيّة الإعتراف، بالمقابل، بأنّ قيادات وتيّارات وأحزابًا مارونيّة تتحمّل جزءًا من تراجع المسيحيّين.
 
 فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، من أجل المصالحة الروحيّة والإجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة، لمجد الله تعالى الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.