د. منى نوال حلمى
العزيزة «مصر».. ترددت كثيرا قبل الكتابة إليك، فأنا أعلم أن الطريق مُلغم بالمتفجرات، مرصود بعيون الجواسيس عابرى الحدود، يحجبون عنك الرسائل والهدايا والورود.

ترددت وفكرت، ربما تغير عنوانك، مثلما تغير لون عينيك، من الأخضر المبهج لون الحقول والطيبة، وأول حضارة للزراعة والكتابة والبناء، إلى الأصفر المتجهم لون الصحراء، والعنف، وحضارة الدم والقتل والإرهاب. ربما لن تجد رسالتى وسيلة سريعة للوصول، فقد تم حظر البدع المستحدثة الضالة الكافرة، السيارات والقطارات والطائرات، والقوارب، واستبدالها بالدواب والجِمال والحمير والإبل وذكور الخيل والبِغال.

عزيزتى «مصر».. نبحث عنكِ فى كل مكان، ولا أحد يدلنا. نصف قرن من الزمان، وأنتِ مختفية، نصف قرن من الزمان، ونحن «حالنا يغم»، فقد أصبحنا بلا «أم».

أبلغنا البوليس الدولى، فاعتذر عن عدم مساعدتنا. فالبحث عن البلاد المفقودة لا يبدأ إلا بانقضاء قرن من الزمان منذ تاريخ الاختفاء.

عزيزتى «مصر».. أنا على يقين، أن الاختفاء لم يكن بإرادتك. البصمات المتناثرة هنا وهناك، الحمض النووى، آثار الأقدام والأحذية، لا تتطابق مع خصائص المصريات والمصريين.

لقد تم «اختطافك»، فى وضح النهار، أمام الأهل والأقارب والأصدقاء، بخطة موضوعة عام ١٩٢٨، من أتباع وأنصار الدولة العثمانية المهزومة عام ١٩٢٣، على يد مصطفى كمال أتاتورك.

ومنذ ذلك الحين، تتجدد الخطة، ويتغير التكتيك، وتتبدل ألوان الأقنعة، ويزيد تدفق الأموال، لكى يتحقق الحلم، وتتحولين يا «مصر»، إلى إمارة أو ولاية إسلامية، ضمن إمبراطورية دينية كوكبية، يحكمها الخلفاء والسلاطين وأمراء المؤمنين، ترفرف عليها رايات الإسلام الوهابى، وأعلام القبيلة البدوية الكبرى.

هم لا يعترفون بفكرة «الوطن». الإسلام هو الوطن، أينما كان. ولا يعترفون بالدولة الحديثة. الدولة هى دولة الخلافة منذ ١٤٥٠ سنة. يكفرون القوانين الوضعية، لتنظيم وحماية الحقوق والواجبات والمواطنة. القانون الإلهى، وشريعته، هما المرجعية الوحيدة.

يصفونك يا «مصر»، بـ «دار الكفر»، التى لا تقيم شرع الله، ولا تطبق حدود الله. أعلنوا الجهاد، بكل درجاته، فريضة واجبة، لاستعادة الدولة الإسلامية.

مائة عام، وأنتِ يا «مصر»، تتعرضين لأكبر سرقة عرفها تاريخ البشر. بخطى دؤوبة لا تيأس، سرقوا «اسمك»، سرقوا «ملامحك»، سرقوا «فنك وإبداعك»، سرقوا «البهجة فى عيون الأطفال»، سرقوا «دقات الحب فى قلوب البنات»، سرقوا «أوراق الحكمة»، سرقوا «آثار الملكات». صادروا «وجوه وشعر النساء»، صادروا «الفرح والأعياد»، صادروا «الرقص والغِناء». وأعلنوا للجميع: «البلد مغلق إلى حين الانتهاء من الإصلاحات».

لستِ يا مصر «مصرنا» التى عرفناها، وزهونا بها، شجرة عميقة الجذور، تمنح الظل والثمار، تلهم الإبداع والحكمة، ولِم لا؟، ألم تكتب الأبجديات الأولى، على صفحة الحضارة؟.

منْ هؤلاء يا «مصر» الذين يمشون فى شوارعنا، يتعلمون ويشتغلون، يفرضون علينا لغتهم، وأزياءهم، وذقونهم، وأمزجتهم؟.

من نراه اليوم، ليس الرجل المصرى، الذى كان يحضر حفلات «أم كلثوم» الخميس الأول من كل شهر. وهذه المتشحة بالسواد، ليست الفتاة المصرية التى كانت ترتدى زى البحر أمام أبيها وأخيها. وتلك المرأة التى تعظ على الشاشات، ليست المرأة المصرية، التى اختارت زوجا يدعم اشتغالها بالتمثيل.

فى وقت ما، كان نجوم المجتمع، نساء ورجالا، من أهل الثقافة والأدب والفكر والفن.

واليوم، يا مصر، نجومك هم الداعية والشيخ، والمعالجون بالحجامة وبول البعير،

والطاردون للجن والعفاريت والأرواح الشريرة.

أبدا يا «مصر»، لم نصبح نحن المصريات والمصريين، غرباء فى بلدنا، كما نشعر الآن. ما أقسى أن يُسرق الوطن، واللصوص أمامنا يشربون من دمنا، ومائنا، وعصارة أعصابنا، يطفئون سجائرهم فى عيوننا، «يمرحون»، و«يتبخترون»، و«يتكاثرون»، «يلوثون» أرضنا، وبيوتنا، حتى وصلوا إلى شرايين قلوبنا، وأحبال صوتنا، وغرف نومنا.

مائة عام، يضعون لكِ، يا «مصر» السم فى العسل، وفى الخبز، ولبن الأطفال.

مائة عام من التسمم الشامل المتكامل. لا عجب، أن نصبح فى حالة من «الهزال

الفكرى» و«الإعياء الحضارى»، تستدعى التدخل العاجل.

لماذا تسكتين يا «مصر»؟. كيف تسمحين لهم؟. بالتأكيد، قاموا بإعطائك حقنة مخدرة، ممتدة المفعول. فمن المستحيل، أن يشهد إنسان تفاصيل سرقته، ويبق ساكنا، متفرجا، كأن الأمر لا يعنيه، إلا إذا كان مخدر الوعى، مسلوب العقل. فما بالنا، ونحن نتكلم عن «وطن» بأكمله، يدرس العالم أسرار وإنجازات حضارته.

ما فات قد فات، ولكل الأوطان عثرات وهفوات. الآن يا «مصر»، ليس لدينا رفاهية الوقت، للفُرجة والسكوت. لهذا أكتب إليكِ هذه الرسالة بالبريد «السريع»، والبريد «القلق». ماذا ستفعلين يا «مصرنا»؟.

انهضى يا «مصر» من كبوتك. قومى من نومك، ارفعى رأسك عاليا، وافردى قامتك.

ونحن بجانبك، نحن المصريات والمصريين، المحبين، المخلصين للنيل والأهرامات والمومياوات، أحفاد وحفيدات الجدود والجدات.

هيا، استردى عقلك الذى دفنوه تحت الأرض. وانتزعى هويتك من رمال الصحراء.

اكنسى، وطهرى، واغسلى، ونظفى، الهواء والأرض والماء، رُشى المبيدات، لإبادة أقدام الغرباء، وأدران الدخلاء.

هيا يا «مصر»، ارجعى «مصرية» كما شاء لكِ التاريخ، والجغرافيا، وزهرات اللوتس، وأوراق البردى.

هيا يا «مصر»، ارجعى إلينا. اشتقنا إلى ملامحك الخمرية، وخصلات شعرك المسافرة على ضوء القمر، وضحكات البنات وأغنياتهم فى فضاء الأحلام. كم يحن العُشاق إلى السهر على ضفاف النيل الآمنة من تحرش الكبت المقدس، والأوصياء على المعروف والمنكر.

يا «مصرنا»، الأقزام، والمتآمرون، المحتلون، والمنهزمون، واللصوص، وكلاء الدين، وسماسرة بيع الأوطان بالجملة والقطاعى، يشمتون فينا. فهل تستسلمين، ونحن نراهن على إفاقتك؟.

ارجعى إلينا، يا «مصر».. أنتِ أصيلة، بنت أصول، لن تتركينا فى هذه اللحظة الحرجة، الفارقة. ليس لنا وطن، إلا أنتِ.

ارجعى إلينا، يا «مصر».. وحشتينا.

خِتامه شِعر

========

حتى وإن كتبت آلاف القصائد

ورفضت كل الرجال إلا «الشِعر»

لن يمنحونى لقب «الشاعرة الكبيرة»

إلا باقترابى من رقدتى الأبدية

أبكى وحدى رحيل كل الأحباء

يرتعش صوتى فى الصمت والكلام

تتعثر خطواتى على ممشى الذكريات

تساقطت أسنانى وفقدت البصر والشهية

مهجورة أعيش على هامش الوقت

لا شىء يؤنسنى إلا مذاق قهوتى

مع كل رشفة أعبر محنتى

ويجتاحنى الشوق إلى لمس الحروف

وتولد قصيدتى الجديدة

دون آلام المخاض

سأبقى دائما كما كنت «كاتبة»

على الانحناء عصية

عن التصفيق مستغنية

خارج الطوابير والصفوف.
نقلا عن المصرى اليوم