عاطف بشاى

كثيرًا ما تتفاوت وتتباين وتتناقض وتتنافر وتتباعد وتختلف وتتعارض أو تتوافق وتتسق وتتماهى وتتلاحم وجهات النظر والرؤى لكتابنا الكبار، بين السرد الأدبى لقصصهم ورواياتهم.. وبين الرؤية الدرامية عند تحول هذه القصص والروايات إلى أفلام سينمائية أو مسلسلات تلفزيونية بواسطة كتاب السيناريو والحوار، ويشمل ذلك التباين أو الاتساق مضمون ومحتوى العمل والبناء الدرامى والأحداث وتصاعدها والصراع بعنصريه الداخلى والخارجى.. ورسم الشخصيات وعلاقتها بالحبكة والذروة والنهاية.. ومن واقع تجربتى الشخصية فى تجسيدى ككاتب سيناريو والكثير من النصوص الأدبية، بالإضافة إلى متابعتى لتجارب أخرى كثيرة مرتبطة بتحويل نصوص أدبية إلى شرائط مرئية، يمكننى أن أرصد تلك الفروق بين الاتفاق والاتساق.. والتناقض والتنافر، من خلال موقف اثنين من كتابنا الكبار هما: «نجيب محفوظ» و«يوسف إدريس»، عند تحويل بعض أعمالهم الأدبية إلى أفلام سينمائية.

 

بدأت رحلتى فى التأليف الدرامى بكتابة سيناريو وحوار الفيلم التلفزيونى «تحقيق» عن قصة لأديبنا الكبير «نجيب محفوظ»، وهى قصة ملغزة فى شكلها ومضمونها قائمة على تداخل الأزمنة والأمكنة ونسف منطق التتابع الذى لا يعتمد على التسلسل التقليدى والحبكة المرتبطة ببداية ووسط ونهاية.. ورسم الشخصيات يتسم بالالتباس واختلاط مستويات الأحداث وغموض المحتوى الذى يتمخض عن نهاية غريبة ويضفى على القصة كلها شكلًا عبثيًا وإطارًا رمزيًا يعكس اتجاهًا فريدًا فى أسلوب «نجيب محفوظ» مغايرًا لطبيعة قصصه السابقة المعتمدة على البناء الكلاسيكى المحكم.. وبناء على ذلك فقد سعيت إلى بناء درامى مختلف عن السياق المكتوب بالقصة مع عدم الإخلال بمضمونها ومحتواها الفكرى فى نفس الوقت.

 

وحينما عرض التلفزيون الفيلم فى أوائل الثمانينيات سأل الناقد «محمد صالح» الأستاذ عن رأيه فى الفيلم ملمحًا له أن السيناريست قد غير كثيرًا فى أحداث القصة ورسم الشخصيات وحول اتجاهها من قصة تنتمى إلى أدب «اللا معقول» إلى فيلم «معقول».. فأكد له الأستاذ: «حسنًا ما فعل.. فقد سبق أن التزم كاتب سيناريو آخر بقصة عبثية لى هى (شهر العسل) بنفس طريقة الحكى والبناء العبثى فأغلق الناس التلفزيون».

 

يؤكد هذا الاعتراف أن كاتبنا الكبير كان يدرك تمامًا الفروق الجوهرية بين لغة الأدب وبين اللغة المرئية، وأن القصة أو الرواية المقروءة تختلف اختلافًا كبيرًا فى بنائها وطريقة سردها عن طبيعة العمل المرئى من خلال السيناريو الذى يعتمد على أدوات ووسائل مختلفة.. ومن ثم فإن السيناريو فن قائم بذاته ولذاته.. ولا يعتبر كاتبه مجرد وسيط أو معد أو ناقل أو محاك للرواية الأصلية.. وإنما هو ينشئ عالمًا كاملًا يوازى عالم الروائى.. يتفق معه فى المضمون الفكرى ولكنه يختلف معه فى وسائل التعبير.. ولم لا.. والأستاذ مارس كتابة السيناريو والحوار لأكثر من أربعة عشر فيلمًا منذ الأربعينيات ولم يكتب أى سيناريو لأى عمل من أعماله الأدبية لأنه كان يرى أنه لا يستطيع أن يغير من شكلها الأدبى، وكان يترك للآخرين أن يفعلوا ذلك مستخدمين أدوات أخرى فى التعبير تختلف عن أدوات الروائى.

 

أما «يوسف إدريس» فقد كان على النقيض تمامًا من «نجيب محفوظ» فى موقفه وقناعاته، وذلك منذ أول فيلم «حادثة شرف» وهو أول إطلالة سينمائية لقصة له على الشاشة.. وأقحم نفسه فى معركة مع كاتب السيناريو والحوار «مصطفى محرم» حيث رفض جملة وتفصيلًا المعالجة الدرامية للفيلم بعد قراءتها وقرر أن يعيد كتابته.. وبرر ذلك فى حديث صحفى بقوله: «لقد أدركت أن أحدًا آخر لن يستطيع أن يجسد ما أريد وبالطريقة التى أجيده بها.. لهذا قررت ألا اكتفى بمجرد الفرجة وإنما أن أحاول أو أجتهد لإيصال وجهة نظرى إلى الجمهور».. وكانت المشكلة الرئيسية فى الفيلم هى مشكلة تقديم الريف للمشاهد.. وكان التحدى كيف نغوص فى أعماق المتلقى ولا نتوقف به عند السطح والشكل والجلباب، بمعنى أن تقدم الشخصيات الدرامية باعتبارهم بشرًا.. وباعتبار أن الإنسان الريفى هو الأصيل فى حياتنا وهو يعانى من مشاكل وهموم حقيقية مرتبطة بحياته الاجتماعية.. بحيث بعد ثوان من العرض ينسى المتفرج الجلباب واللاسة والديكور الخارجى الريفى ويعيش مع الإنسان نفسه ويشعر بمعاناته وطموحه وأحلامه.

 

 

لكن «مصطفى محرم» اتهم «يوسف إدريس» بالسطو على السيناريو الذى كتبه ويحمل ملامح كثيرة منه ووضع اسمه عليه وألغى كل صلة لمصطفى.. وهدد بمقاضاته.. وشغلت الصحافة الفنية وقتها بهذه المعركة حتى ظهر الفيلم وكانت النتيجة أنه فشل ولم يحقق أى نجاح على المستوى الفنى أو النقدى أو الجماهيرى.. وظهر أن أسلوب الحوار الذى كتبه «يوسف إدريس» أقرب إلى الحوار المسرحى وإلى لغة المثقفين منه إلى لغة ولهجة الفلاحين.. ومع ذلك واصل «يوسف إدريس» التدخل فى عدد من سيناريوهات قصصه ورواياته.. ولم تقدم السينما فى معظمها إبداعاته بنفس مستواها الروائى باستثناء فيلم «الحرام».

نقلا عن المصرى اليوم