سمير مرقص
(١) «نحو التحرر»
دعانى صديق الدراسة الثانوية بمدرسة الإرسالية الإنجليزية، ورفيق الحياة العامة: الثقافية والسياسية، الدكتور النفسى النابه إيهاب الخراط للمشاركة فى فعاليات صالون الأديب والناقد والمترجم والمثقف المصرى الكبير الأستاذ إدوارد الخراط، للحديث عن نص الفيلسوف الأمريكى الكبير (من أصل ألمانى) «هربرت ماركيوز» (١٨٩٨- ١٩٧٩): «نحو الحرية»، الصادر فى ١٩٦٩، والذى قام بترجمته الأستاذ إدوارد الخراط عام ١٩٧٢، يُشار إلى أن النص الأصلى حمل عنوان: «مقال فى الحرية- An Essay on Liberation»، ففى هذه السنة تمر الذكرى الخامسة والخمسون على إصدار الكتاب الذى أبدعه «ماركيوز» فى مرحلة تاريخية اتسمت بغضب جيلى: شبابى وطلابى، فى المركز الغربى الرأسمالى الثقافى التاريخى: فرنسا، وواكبها حركة احتجاجية مدنية عارمة فى الولايات المتحدة الأمريكية. كان كتاب «ماركيوز» وثيقة تاريخية بكل المقاييس حول: العالم الذى تم هندسته بعد الحرب العالمية الثانية، وأدى إلى تنامى أعداد المقهورين/ المقموعين فى كل مكان على سطح الكوكب. هذا القمع الذى مارسته: الرأسمالية الاحتكارية (الغربية) من جانب، والنموذج السوفيتى (الشرقى) من جانب آخر على مواطنى الكوكب، ومن ثم حاول «ماركيوز» أن يكشف «ظاهرة القمع» الممتدة التى تفرض سيطرتها على هؤلاء المواطنين- الأجيال الطالعة- والحاجة إلى إحداث تغيير جذرى شامل لبُنى مارست هيمنات لم تُنتج إلا القهر. وكان «ماركيوز» يقصد- آنذاك- القهر بتجلييه الرأسمالى الديمقراطى والاشتراكى السوفيتى.

(٢) «ماركيوز والطلبة»
تلقف الشباب الغاضب أفكار «ماركيوز»، حيث وجدوا فيها بوصلتهم لتحركاتهم المتمردة التى رفعت شعار: «المنع ممنوع»، هذا الشعار الذى جسد مدى غضبهم من «الهيمنات» المختلفة. أما من ناحيته، فلقد اعتقد «ماركيوز»، حسب أحد الفلاسفة، «بأنه قد اهتدى إلى قوى معينة، فى قلب المجتمع الحاضر، تستطيع أن تكون أداة عملية لإحداث عملية التغيير التى يدعو إليها». وقد عمت هذه الفكرة حيث تبناها ومارسها شباب ٦٨ عبر الطلبة أولًا فى الأكاديميات الفرنسية والتى انضم إليها لاحقًا: المثقفون والعمال. بيد أن الطلبة كانوا هم نجوم الغضب ودعاة التغيير واستبدال بُنى الهيمنات. بلغة أخرى كانوا القوة الثورية التاريخية الجديدة فى نهاية الستينيات من القرن الماضى. وبالرغم من إبداعات «ماركيوز» الفلسفية السابقة على نص «مقال فى الحرية أو نحو التحرر حسب ترجمة إدوارد الخراط» إلا أن النص الأخير، تحديدًا، قد حقق لـ«ماركيوز»، حسب الدكتور فؤاد زكريا (١٩٢٧- ٢٠١٠، فى تقديمه لترجمته لكتاب هربرت ماركيوز العقل والثورة)، «القدر الأكبر من شهرته فى السنوات الأخيرة من عمره»، إذ إن انحيازه للطلبة، وكان الطلبة أنفسهم من أهم عوامل إذاعة هذه الشهرة؛ إذ إنهم أبدوا ترحيبًا كبيرًا بذلك المفكر الذى استطاع أن يجعل لهم دورًا بارزًا فى تحريك أحداث العالم، فى الوقت الذى كان فيه غيره من المفكرين يستبعدونهم أو يجعلون لهم دورًا هامشيًّا فحسب. ومن جهة أخرى فإن ماركيوز ذاته وجد فى ثورات الشباب تأييدًا قويًّا لأفكاره التى نادى بها من قبل، والتى أعلن فيها أن القوى الثورية التقليدية، وهى البروليتاريا، قد فقدت ثوريتها باندماجها فى المجتمع الصناعى المتقدم إلى حد أصبحت فيه تحرص على بقاء هذا المجتمع- على ما هو عليه وتبرير القمع- ومن ثم الحفاظ على طابعه الاستغلالى.

(٣) «من أجل حياة بلا أوصياء»
إذن، رحب الطلبة/ الشباب بأفكار «ماركيوز» ووجدوا فيها دليلًا على أنهم أصبحوا الورثة الحقيقيين لروح الثورة فى العالم. ولقد كان من الطبيعى أن تجد هذه الفكرة رواجًا بين شباب العالم، ولاسيما فى البلاد الصناعية المتقدمة بأمريكا وأوروبا، خاصة أن الشباب- بحسب كثير من الأدبيات التى اشتهرت بأدبيات الستينيات Sixties literature- فى هذه البلاد كان مهيأ نفسيًّا للفكرة القائلة إنه مرفوض ومنبوذ، وأن الكبار لا ينصتون إليه ولا يتركون له دورًا فى تحديد مجرى الأحداث. وتكاد المشكلة الرئيسية للمراهقين فى هذه البلاد أن تكون عدم إصغاء الكبار إليهم، وعدم تجاوبهم معهم؛ لأن هؤلاء الكبار منصرفون بكل قواهم إلى أعمالهم الإنتاجية، التى لا تترك لهم وقتًا للتفاهم مع أبنائهم. ومن هنا فإنه حين يأتى مفكر مثل ماركيوز لكى يؤكد أن هؤلاء المرفوضين هم مخلِّصو البشرية الجدد فلن يكون من المستغرب أن يتعلق به الشباب ويروا فيه المفكر الناطق بلسانهم. فالشباب هم المنوط بهم أن يقوموا بالتأسيس الجديد للعالم والمجتمع وأبنيته المختلفة من أجل حياة أكثر إنسانية وعدالة وأكثر قبولًا للتنوع والحرية والنقد الذاتى والإبداع الخصب والتضامن الإنسانى بين المنبوذين... هكذا تبلغ الإنسانية حياة بلا أوصياء (راجع كتابنا مواطنة بلا أوصياء- قيد النشر).

(٤) «الحساسية الجديدة»
وبعد، كانت الأمسية بما تضمنت من نقاشات غاية فى الثراء، خاصة أنها امتدت لتتناول التحولات الراهنة فى أوروبا وكيف أن أفكار «ماركيوز» لم تزل صالحة لتفسير النزوع المواطنى القاعدى الراهن. كذلك تطرق الحديث لمفهوم «الحساسية الجديدة» The New Sensibility؛ الذى سكه/ صكه ماركيوز فى مقالته عن الحرية، واستلهمه «إدوارد الخراط» كتيار إبداعى أدبى راديكالى يؤسس لواقع جديد.. ولهذا حديث آخر.
نقلا عن المصرى اليوم