عادل نعمان

وإذا قرأنا عن السير الذاتية أو النصوص التاريخية أو القصص الدينية، فلا يمنعنا أحد من التدقيق والتمحيص والفرز، على أن ما نقرأ عنهم ليس كله حقيقة، وكما يحتمل الصواب فإن الخطأ وارد وناهض وموجود، ولا حرج أو مصانعة أو مجاملة فى النقد الواضح الصريح، واستقبال الرد بحياد كامل، فلا قداسة ولا عصمة لأحدهم، فهو سرد تاريخى لبشر منقول عن رواة وقصاصين، وربما يفتقد فى الكثير من التواصل المباشر بين الرواة بعضهم بعضًا، والأهم أن كل هذه الروايات قد نقلت على المعنى وليس على الحرف «اللفظ» زمن من وقوعها أو اختلاقها، هؤلاء جميعًا الراوى والمروى عنه وصاحب الرواية وناقلها لهم نوازعهم وطموحاتهم ونقاط ضعفهم البشرية، فتستجيب وتلبى إذا ساءت وانحرفت، وترفض إذا عفت واستحت، وهذا قدر الجميع وإرادة الإنسان فى التعفف والترفع أو الانحراف والاعوجاج، ولا نستثنى أحدًا مهما علا شأنه أن يكون تحت هذه المظلة وتحت نفس السماء، صحابيًا كان أو خليفة أو إمامًا للدعاة أو للرأى أو مفسرًا وشارحًا.

 

وإذا كان أحد مشايخنا العظام المحدثين يذكر أن سيدنا الولى عبد الرحمن بن جابر كان يجامع زوجته من مسافة ألف وثمانمائة كيلو، وكانت تحمل منه وتنجب، ويصدقه البعض، فلا مانع أن يصدق الناس عن الإمام الشافعى أن امرأة محمد بن عجلان كان تحمل جنينها فى بطنها ثلاث سنوت، وتصدق أيضًا ما فعلته جيوش سعد بن أبى وقاص فى غزو العراق وعبورهم نهر دجلة، حين اقتحموه بالخيول، فإذا تعبت الخيول ترتفع الأرض من تحت حوافرها فتستريح وتستكين وتهدأ، وكان الفرسان يتسامرون ويتضاحكون وكأنهم على الأرض سائرون حتى تحسبهم يتنزهون فى الخلاء، ومن قال إن ماء نهر دجلة قد شح وجف من دعاء «سعد» له، وعبر الجنود فى سلام ويسر، وزادنا أحدهم برواية «القدح» أو الوعاء، فقد فقد أحدهم قدحًا للماء أثناء عبور النهر، وكان عزيزًا عليه، وحزن حزنًا شديدًا، فأبت أمواج النهر أن يصاب الصحابى بكدر، فدفعت القدح إليه من قاع النهر فى حجره وهو جالس يستريح، ولن ننسى ما تناقله المحاربون فى حرب أفغانستان الأخيرة وكيف كانت «نعوش» الشهداء تطير فى السماء، ويتسابقون فى الارتقاء، وكانت توزع روائح المسك على المودعين.

 

ولنهر دجلة كرامات ونعمات حسان كما زعموا، فكانت أمواجه تحارب مع الغزاة، وشاطئه حافظًا للجنود وأمينًا، فهذا أبو مسلم الخولانى حين عبر النهر إياه كانت ألواح الخشب تفرش أمامه ليمشى عليها ويتبعه جنوده وخيوله فى سلام، ولما قطع المسافة وعبر النهر، سأل الصحابة «هل فقد أحدكم متاعًا فنرده له؟»،

 

أما قصة الحمار «يعفور» فقد وردت فى البداية والنهاية لابن كثير، وابن الأثير فى أسد الغابة، والذهبى فى ميزان الاعتدال، والحافظ بن حجر فى لسان الميزان، والسيوطى فى اللآلئ المصنوعة، وفى صحيح «البخارى، ومسلم»..عن معاذ بن جبل: لما فتح الرسول خيبر أصاب حمارًا أسود «كان من نصيبه»، فكلمه رسول الله، فقال له: ما اسمك؟، أجاب الحمار: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسلى ستين حمارًا لا يركبها إلا نبى، وقد كنت أتوقعك لتركبنى، ولم يبق من نسل جدى غيرى ولا من الأنبياء غيرك، وقد كنت قبلك عند رجل يهودى، وكنت أعثر به عمدًا، فقال له الرسول تعالى فأنت «يعفور»، وكان الرسول يركبه فى حاجته، وكان يبعثه خلف من شاء من أصحابه، فيأتى الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج صاحب الدار أومأ له الحمار برأسه، فيعلم أن الرسول طلب فى استدعائه، ولما قبض الرسول ذهب «يعفور» إلى بئر كانت لأبى الهيثم، فتردى فيها حزنًا على رسول الله ومات، وهى حكاية لا أتصور أن مقام النبوة الغالى فى حاجة إلى إثبات من هذا اليعفور «ولو كان الأمر كذلك لملأت كتب الفقهاء بحكايات على شكل ألف ليلة وليلة من الغربان والعصافير والنسور تتحاكى وتتباهى بنسلها الشريف، إلا هذا الحمار الذى أخطأ فى الحساب إذا كان رقمه فى ترتيب الحمير الأحفاد ستين حفيدًا، وهى حسبة لا تتعدى ألف عام، فكيف تسنى للجد الأعظم أن يلحق بالأنبياء الأوائل!!.

 

القصص لا تنتهى، وقد كانت فى زمن تأكيد وتوكيد وبرهان على وجودها، يستعين بها أصحابها حين كانت الظواهر الطبيعية والإنسانية جميعها لا تفسير لها سوى هذا الشطط، وكان مقبولًا ومستساغًا، وقد كانت الأساطير قاسمًا مشتركًا فى حياة الناس، يعيشون ويتنفسون هواءها برضا حين عجز العقل عن التفسير والتعليل، إلى عهد أصبح العلم هو السائد والمفسر والشارح الوحيد، والحكاية أو الرواية تحتاج إلى دليل وإثبات وبرهان وإلا رفضها الصغير قبل الكبير، دون الراوى أو الحكاء وقد كان هو مصدر الثقة والقبول والإقرار سابقًا حتى فى رواية الأحاديث، والحكاوى والسير كثيرة ومفرطة فى مخالفة العقل والعلم، لكن السؤال الأهم: هل يسرى هذا على النصوص نفسها والأحاديث؟، نعم.. هكذا كان المعتزلة أئمة العقل.. والحديث هنا شاق بل ومحظور.

 

«الدولة المدنية هى الحل».

نقلا عن المصرى اليوم