( 1872- 1945 )
إعداد/ ماجد كامل
ميلاده ونشأته :
ولد فى بندر المحلة صباح يوم الأحد الموافق 18 فبراير 1872 م ، ودعي أسمه عبد المسيح تيمنا بجده ، ولقد ألحقه والداه بمدارس الفرير حتى أتيحت له الفرصة لإتقان اللغة الفرنسية حتى صار يتكلم بها كأحد أبنائها . وفى يوم الأحد 8 يناير 1883 ، رسمه الأنبا باسيليوس مطران القدس شماسا فازداد حبا للكنيسة بكل طقوسها وألحانها .
التحاقه بدير الأنبا بيشوي :
تعرف الشاب عبد المسيح على أحد رهبان دير القديس العظيم الأنبا بيشوي ، وأخذ يستمع إلي أحاديثه فتعلقت ىنفسه جدا بحياة الرهبنة . فلما بلغ من العمر ستة عشر سنة ، ودع الأهل والأصدقاء وسافر إلى دير الأنبا بيشوي طلبا للرهبنة ، فوضعه أمين الدير تحت إرشاده وأخذ يختبر نواياه ويراقب تصرفاته حتى تأكد من صدق رغبته فى الرهبنة وتمت رهبنته فعلا بتاريخ 11 يونيو1889 م . ودعي أسمه الراهب عبد المسيح الأنبا بيشوي .
رسامته قسا :
فى يوم الأحد 18 مايو1892 م ، قام الأنبا يوأنس مطران البحيرة ( البابا يوأنس التاسع عشر فيما بعد ) برسامته قسا على الدير . فأخذ يواظب على الصلوات ورفع القداسات .
توجهه إلى دير البراموس :
حدث فى الفترة التي كان فيها البابا كيرلس الخامس منفيا فى دير البراموس ، انه استدعاه إلى الدير لكي يساعده فى بعض المهام الكتابية ، وبعد عودة البابا إلى مقر كرسيه بالبطريركية المرقسية ، طلب منه الراهب القمص عبد المسيح المسعودي البراموسي الصغير ( 1874- 1935 ) أن يبقى معه فترة فى دير البراموس لكي يساعده فى تصنيف كتاب باسم " ميامر البصخة " ، فانصرف معه إلى مغارة بالدير ومكثا هناك سنة يتعبدان ويدرسان الكتب ، وبعد نهاية السنة طلب منه القمص عبد الملاك الرئيس السابق لدير الأنبا بيشوي العودة إلى ديره الأصلي حيث أن عدد كبير من الرهبان قد تنيح ولا يوجد العدد الكافي لإقامة الصلوات والقداسات ، غير أنه مع الأسف لاقى معاملة سيئة من رئيس الدير وقتها ، فلما سمع القمص عبد المسيح بذلك ، توجه لدير الأنبا بيشوي وكتب رسالة إلى البابا كيرلس الخامس وما لاقاه من عنف من رئيس الدير ، فما كان من البابا كيرلس إلا أن طلب حضوره إليه فى المقر البابوي ، فوصل فى يوم 19 مايو 1895م .
ترقيته قمصا :
قام البابا كيرلس الخامس بتعيينه سكرتيرا خاصا له ، ورقاه إلى رتبة القمصية ، وكان ذلك يوم 1 سبتمبر 1896 م .
رسامته مطران على أسيوط :
بعد نياحة الأنبا ميخائيل مطران أسيوط يوم 14 مارس 1897م ، طلب شعب أسيوط من البابا كيرلس اختيار مطران بديل له ، فوقع اختياره بعد تفكير ومشاورات على الراهب القمص عبد المسيح المحلاوي سكرتيره الخاص ، فلاقى استحسانهم جدا ، وتمت رسامته أسقفا على أسيوط يوم 12 يوليو 1897 م باسم الأنبا مكاريوس .
أعماله فى المطرانية:
1-افتتح مدرستين للبنين والبنات .
2-عين الواعظ الارثوذكسي اسكندر حنا رئيسا للشمامسة ، وكلفه بالوعظ فى القداسات، ثم رقاه إلى درجة رئيس شمامسة ( أرشيدياكون ) .
3-اهتم كثيرا بخدمة الفقراء والمساكين .
4-اهتم بتحسين العلاقات من أخوتنا البروتستانت ، فكان يزورهم مجاملا دون أن يهاجم عقائدهم أو يناقشهم فيها ، وكان يسير فى موكب موتاهم بملابسه الكهنوتية إلى أبواب الكنيسة الإنجيلية التى تقع فى مواجهة المطرانية .
5- اهتم ببناء كنيسة على أسم القديس مارمرقس الرسول وجعل منها مقرا أسقفيا من طابقين ، وتذكر بعض الكتب أنه أثناء إشرافه على أعمال البناء ، سقط من أعلى المنارة على الأرض ، غير أنه كانت بيده مظلة ساعدت على هبوطه سالما، فلم يصب إلا ببعض الرضوض البسيطة .
6-اهتم بترميم مباني كنيسة الشهيد أبادير القديمة فرمم مبانيها .
انعقاد المؤتمر القبطي بأسيوط عام 1911 :
بعد مقتل بطرس ياشا غالي فى 20 فبراير 1910 ، حدث نوع من التوتر فى العلاقات بين المسلمين والأقباط ، فأراد الانبا مكاريوس أن يهديء المشاعر قليلا ، فدعا مع أراخنة البلد إلى عقد مؤتمر فى أسيوط لمناقشة المشاكل الوطنية والقضاء على الفتنة ، اعترض البابا كيرلس الخامس فى البداية تخوفا من استغلال المتطرفون لهذا المؤتمر فى إشعال المزيد من الفتنة ، فتعهد الأنبا مكاريوس برعاية المؤتمر بنفسه وتحمل مسئولية أي ردود أفعال عنيفة ، افتتح المؤتمر اول جلساته يوم 6 مارس 1911 ، وصلى المطران صلاة افتتاحية يدعو فيها الي الهدوء والسلام ، ومع أن المؤتمر لم يعط ثمارا جيدة فى وقته ، إلا ان معظم أهدافه قد تحققت فبما بعد .
اهتمامه بنقش الصلبان والزخارف :
اهتم الانبا مكاريوس برسم الصلبان المختلفة الأشكال والأحجام والحروف القبطية التي تتصدر صفحات الكتب المنسوخة بكافة الألوان ، وقد ترك فى ذلك ثلاث مجموعات مزينة بعشرات من الصور ، أهدى مجلد منها إلى دير القديس الأنبا بيشوي ، وأهدى الثاني إلى صديقه الأنبا ثاوفيلس مطران منفلوط ، واحتفظ بالثالث لنفسه .
ترشيحه للبطريركية وتجليسه بطريركا :
بعد نياحة البابا يوأنس التاسع عشر فى 21 يونيو 1942 ، اجتعمت لجنة الترشيحات برئاسة الأنبا يوساب مطران جرجا وقائم مقام البطريرك ، وتلقت أسماء المرشحين للبطريركية ، وفى صباح يوم الجمعة 4 فبراير 1944 بدأت عملية الانتخابات ، وأعلنت النتيجة التي أسفرت فوز الأنبا مكاريوس بأغلبية ساحقة ، وبالفعل تمت احتفالات التنصيب صباح يوم الأحد الموافق 12 فبراير 1944 بالكنيسة المرقسية الكبرى بالأزبكية ، وكان يوما مشهودا حضره مندوبو الحكومة وسفراء الدول الكبرى وعدد كبير من رؤساء الكنائس الشرقية والغربية .
تواضعه وإحترامه للطقوس الكنسية :
روي لنا المتنيح الأنبا غريغوريوس أنه في اليوم السابق لرسامته بطريركا ، أي يوم السبت 11 فبراير 1944 ،كان يصلي القداس الإلهي في الكنيسة الأثرية المعلقة بمصر القديمة ، وعندما قال الشماس المنوط به قراءة الإنجيل "الرب عن يمينك يا أبانا البطريرك البابا مكاريوس الثالث " ، فقاطعه نيافته في الحال وصرخ فيه قائلا : "لم تتم الرسامة بعد " فتوقف الشماس فى الحال عن ذكر هه العبارة ، ولقد كان حاضرا هذا القداس الأستاذ وهيب عطا الله ( المتنيح الأنبا غريغوريوس ) مع شقيقته ، كما كان حاضرا هذا القداس أيضا نجل شقيقه الأستاذ "عبد المسيح بشارة " ( المتنيح الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف ) . وتوجد صور شهيرة لهذا القداس وبظهر فيها الأستاذ عبد المسيح بشارة واقفا وسط الجموع على سلم الكنيسة المعلقة بعد الانتهاء من صلاة القداس الإلهي .
أعماله فى البطريركية :
شهدت الدار البطريركية فى عهد زيارتين تاريختين :
1-الزيارة الأولى كانت يوم أن جاء الملك فاروق الأول لزيارة الدار البطريركية يوم الأثنين الموافق 30 أبريل 1945 لافتتاح أسبوع النشاط المدرسي فأستقبله البابا ومعه عدد من المطارنة وأعيان الأمة ورجال المجلس المللي ، ثم قام بتفقد الفصول ومشاهدة المعروضات المدرسية ، وفى اليوم التالي مباشرة الموافق 1 مايو 1945 ، توجه البابا مكاريوس الثالث إلى قصر عابدين حيث قدم الشكر لجلالته على زيارته الكريمة .
2-الزيارة الثانية كانت من مار الكسيس بطريرك موسكو والسيد السكندروس طحان بطريرك أنطاكية للروم الأرثوذكس ، حيث قاما بزيارة الدار البطريركية صباح يوم الجمعة الموافق 8 يونيو 1945 م ، حيث أستقبلهما قداسة البابا استقبالا حافلا يليق بهما كبطريركين عظيمين ، ثم انصرفا إلى مقرهما ببطريركية الروم الأرثوذكس بالحمزاوي ، وقام قداسة البابا برد الزيارة لهما فى اليوم التالي مباشرة .
الخلاف مع المجلس المللي :
حدث فى تلك الفترة نزاع بين البابا والمجلس المللي حول إدارة الأوقاف ، مما دفع البابا إلى هجر العاصمة والاعتكاف بدير الأنبا بولا ، وكان ذلك بتاريخ 7 سبتمبر 1944 ، ورافقه فى سفره كل من الأنبا ثاؤفيلس مطران القدس ورئيس دير الأنبا أنطونيوس والأنبا تيموثاوس مطران الدقهلية والأنبا أبرآم مطران الجيزة والقليوبية ، فتدخلت الحكومة وطلبت من المجلس المللي العمل على عودة البابا ، فوافق البابا وعاد إلى مقر كرسيه يوم السبت 23 ديسمبر 1944 .
فضائله :
كان البابا مكاريوس رجلا كنسيا من الطراز الأول ، يجيد معرفة الطقوس جيدا ، زاهدا فى المال لا يقيم له وزنا ، ومع قلة موارده إلا أنه لم يسمح لنفسه أن يمد يده إلى أموال الأديرة ، كما امتنع عن قبول العطايا ، كما كان معتزا بكرامته إلى أقصى حد ، فعندما اصطدم مع المجمع المقدس ورجال المجلس المللي ، لم يستجد رضاء أحد الطرفين ، ولم يهبط بشخصيته إلى المستوى الذي لا يتناسب مع رتبته الرفيعة ، بل كان يطالب بحقوقه كبطريريك بكل عزة وكرامة ، كما كان محسنا كريما دلت عليها مذكرة صغيرة وجدت بعد نياحته ، مدون فيها ما كان يفعله بيمينه دون أن تعرفه يساره .
تاريخ نياحته :
تنيح البابا مكاريوس يوم 31 أغسطس 1945 ، بعد أن مكث على الكرسي البطريركي سنة واحدة ، وستة شهور وثمانية عشر يوما كلها مليئة بالمتاعب والأحزان .
معجزة حدثت أثناء صلاة الجناز :
روي لنا المتنيح الأنبا غريغوريوس أنه كان ضمن خورس الشمامسة طلبة الكلية الإكليركية المكلفين بالصلاة على الجثمان الطاهر ، ويذكر نيافته أنهم عندما أرادوا فرد ذراعيه لكي يلبسوه الروب الخاص بالبطريرك ، وعندما تقدموا بالمحاولة فوجئوا بالبابا يرفع يديه لهم تسهيلا لمهمتهم ، وأذكر جيدا أن نيافته تحشرج صوته وأجهش بالبكاء ولم يستطع إكمال الجملة من فرط التأثر .
كلمة الرثاء التي كتبها الاغنسطس وهيب عطا الله جرجس ( المتنيح الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي ) :
عندما تنيح البابا مكاريوس ، كتب الأغنسطس " وهيب عطا الله جرجس " ( المتنيح الأنبا غريغوريوس ) كلمة رثاء لقداسته نشرت فى مجلة "الإيمان " عدد شهر سبتمبر 1945 ،جاء فيها من ضمن ما جاء :
" سيدي يا غبطة الحبر الجليل ، إني لأقر بصدق وإخلاص أنك فى عيني كنت ولا زلت المثل الأعلى للراهب العابد الناسك الزاهد . من ذا الذي براك ولا يشعر أن أحب أمر إلى قلبك النقي هو العبادة الصادقة ؛ أجل فأنت هو الراهب الطاهر بالجسد والروح ، العابد الحق الذي أحببت الله من كل فكرك ومن كل قلبك ومن كل قدرتك ....... سيدي البابا العظيم ! ما أعنف صومك وما أعظم زهدك ، أو أنت الشيخ الكبير تصوم منقطعا عن الطعام والشراب إلى المساء ! فلا تأكل بعد إجهاد الصوم وعناء الصلاة إلا وجبة واحدة ..... ويحنا نحن الوعاظ ! ما أقل عظاتك باالكلام ؛ لكنها مع قلتها فى عداد ألفاظها عميقة حارة مملوءة قوة وفضيلة ومحبة وغيرة هى غيرة الراعى على رعيته ، التى بذلل نفسه لأجلها . لم تتوان عن أن تدعونا فى شتى المناسبات ،شيبا وشبابا ، إلى الكمال المسيحي وفضائل العبادة من صلاة وصوم وبر وإحسان .ولا سيما الشباب فقد كنت تدعوهم للكنيسة " زهورها وأثمارها " مما كان قلوب الشباب شجاعة وثقة وإيمانا .
رأيتك مرارا يا سيدى البابا خاشعا بورع منقطع النظير ، تصلى ودموعك الطاهرة النقية منهمرة على خديك .... بهذا قد علمتنا بطريقة عملية وخطة رسولية تقليدية ، كيف ينبغي أن تكون الصلاة الحقيقية من أجل النفس ومن أجل الرعية . لذلك كم كنت غنيا وغنيا جدا فى النعمة وفى معرفة ربنا يسوع المسيح .
أما تواضعك الجم فلم يكن عجيبا ولا غريبا عن رجل كان نائبا عن المسيح ووكيلا لسرائره أمينا ؛ ولكن الغريب أن يكون هذا التواضع الوافر مصحوبا بغير اكتراث لبشر ، وغير اهتمام لرأي أو وجه أحد مهما كان غنيا أو ثريا عظيما . لقد رأيت الدليل بل الأدلة بعينى رأسي فلن يقنعني بغير ذلك دليل ، ولن يحولني عن رأيي فيك لو كان حقيقة ثمة دليل أو برهان " .
راجع نص الكلمة بالكامل فى : (موسوعة الأنبا غريغوريوس : مقالات وموضوعات متنوعة – الجزء الأول – موضوعات روحية ، المجلد رقم 29 ، جمعية الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمى ، الصفحات من 329- 331 ) .
مراجع المقالة :
1-القمص صمويل تواضروس السرياني : تاريخ البطاركة ، الجزء الثالث ، مكتبة دير السريان العامر ، الطبعة الثالثة ، 2011 ، الصفحات من 294- 304 .
2-إيريس حبيب المصري : قصة الكنيسة القبطية ، الكتاب السادس (أ ) 1928- 1946 ، مكتبة المحبة .
4-مينا بديع عبد الملك :رسالة مارمينا الثامنة عشرة فى أعمال الآباء بطاركة وأساقفة القرن العشرين ، مطبوعات جمعية مارمينا العجايبي بالإسكندرية ، 2004 ،الصفحات من 30- 33 .
5-نيافة الأنبا غريغوريوس : موسوعة الأنبا غريغوريوس – مقالات وموضوعات متنوعة – الجزء الأول ، موضوعات روحية ، المجلد رقم 29 ، الصفحات من 329- 331 .