ماجد سوس
    عرف أليشع النبي قوة إيليا النبي الروحية ومكانته عند الله. حين سأله إيليا ماذا تطلب قبل أن أتركك طلب طلبا عجيبا! لقد طلب قوتين أو روحين من روح إيليا، ليعيناه في الخدمة وفي حياته الروحية على الأرض، فقال: " لِيَكُنْ نَصِيبُ اثْنَيْنِ مِنْ رُوحِكَ عَلَي" ورغم انه طلبا غريبا إلا أن إيليا اجابه: "صَعَّبْتَ السُّؤَالَ. فَإِنْ رَأَيْتَنِي أُوخَذُ مِنْكَ يَكُونُ لَكَ كَذلِكَ" (٢ مل ٢: ٩،١٠) وبالفعل ستجد معجزات أليشع وخدمته ضعف معلمه إيليا.

واليوم، نشكر الله أننا عاصرنا إليشع الثاني، الذي تتلمذ على يد اثنان من "روح إيليا" هذا الزمان. وهم البابا كيرلس السادس والقمص بيشوي كامل. وإليشع هنا هو القمص لوقا سيداروس، الذي كان يحمل في داخله روحاي هذين القديسين. فقد توطدت بينه وبين البابا كيرلس علاقة روحية عميقة ورأى بعينيه الكثير من المعجزات والأمور فائقة الطبيعة وعاصر حكمة البابا وتعلم منه الكثير، حتى صار من اشتهى أن يعاصر البابا كيرلس عاصره في ابنه ابونا لوقا. فيشعر المرء بروح البابا في تعامله مع ابونا لوقا من وقار ومهابة ملحوظتان.

أما الروح الآخر هو روح ابونا بيشوي كامل، الروح الكرازي الناري في الخدمة والأبوة بخلاف العظات القلبية العميقة التي تلمس قلوب السامعين. وتعلق ابونا لوقا بأبيه وأخيه القمص بيشوي كامل تعلق لا مثيل له، فقد شرب من تعاليمه وحياته حتى لا يخلو حديث له دون أن يذكر ما تعلمه منه وكان يقيم نهضة ومعرض لأبونا بيشوي في كاليفورنيا، سنويا، وينشر كتابات ابيه ويعلم شعبه كيف يتمثلون بأولئك الذين عاشوا بيننا وجعلوا الأرض سماءً. وأصبح، أيضاً، من لم يلتق ابونا بيشوي، فقد قابله في ابونا لوقا التقى وكما كانت الكنائس وشعوبها تفرح بزيارة ابونا بيشوي لها، هكذا ابونا لوقا كان مجرد وجوده في أي مكان وإن لم يفتح فاه، يجعلك تشعر وإنك في حضرة إنسان الله الملتحف بروحه القدوس.

بعد دخوله المعتقل، ضمن الأربعة والعشرين قسيسا، مع أخيه وتوءمه الروحي القمص تادرس يعقوب. واللذان قد اعتقلهما السادات في سبتمبر الأسود عام ١٩٨٠، استشعر الجميع أن من خرج من السجن هما بولس وسيلا الرسولان. فقد خرجا المعترفان يخدمان ويكرزان بقوة جذب للنفوس عجيبة. بحياتهما، بعظاتهم التي تسرق القلوب عند إفتاح الفم، بأبوة ورعاية حقيقية وفكر مستقيم مستنير. وراحت كنائس الكرازة تتهافت على نوال بركة حضورهما واصبح وجودهما في أي مكان احتفالا وعيدا يسعى إليه المؤمنون من كل الجهات.

اتذكر حين منعهما الأمن من العودة إلى بيتهم الأول كنيسة مارجرجس باسبورتنج. كان شعب الإسكندرية يزحف وراءهما في أي كنيسة يذهبون إليها. وكان من نصيب كنيستي الملاك ميخائيل بمصطفى كامل ان يخدم ابونا لوقا فيها أسبوع الآلام والجمعة العظيمة وكان ابونا لوقا يجعلنا نعيش السماء على الأرض. وكان يوقف بعض الألحان ليشرح في عجاله المعنى الروحي وكان يصلي وكأنه مع العذراء أمام الصليب في الجلجثة.

أتذكر ليلة اول امتحان في الثانوية العامة وكان قد انتابني قلقاً شديداً فوقفت أصلي طالبا من الله ان يسندني وقلت، في ضعفي، يارب ان كنت تحبني، أرسل لي اب كاهن الآن ليرفع صلاة من اجلي ويشجعني وهنا طُرق باب المنزل وكان الطارق ابونا لوقا سيداروس الذي احتضنني وقرأ الإنجيل وشجعني.

القصة الأخرى، في فترة الجامعة، كانت هناك مجموعة كبيرة من المسيحيين والمسيحيات الشباب في كليات التجارة والآداب والحقوق – المسمى بالمُجمّع- أصدقاء مرتبطين ببعضهم البعض بشدة، ولكنت ليست لهم علاقة بالكنيسة او بأي أنشطة روحية، فقط أنشطتهم اجتماعية فهم يسافرون معا في رحلات ويتنزهون. عرف ابونا لوقا بالأمر فقال: "ما رأيكم يا ولاد وأنتم أصحاب وبتحبوا بعض كده، تعالوا نقعد مع بعض يوم واحد بس لمدة ساعة نصلي ونفتح الكتاب". بالفعل بدأ ابونا اجتماع الأحد في كنيسة الملاك في مصطفى كامل ومع الأيام ازدحم الاجتماع وتحول إلى اجتماع شهير تأتي فيه الناس من كل مكان لتستمع لكلمات الروح من فم ابونا الذي كان مفوّها بكلمات النعمة القادرة على تغيير النفوس.

في فترة الشباب كنت دائم التردد على منزله، لأعترف على يديه. وكنت اخرج من عنده متهللا بتشجيعه الدائم وأبوته وعمق فكره. وكان الحوار كله يدور حول المسيح والخلاص ويجيب على كل تساؤلاتي بكل حكمة. فقد كنت تشعر أن مطلع على كل أمور فقد كان يتسم بذكاء وبديهة وحكمة فيجيبك بكلمات قليلة وكأنك قرأت كتابا.

 كانت تربطه علاقة قوية يأبونا ميخائيل إبراهيم وبأبونا متى المسكين الذي أحبهما واعترف على أيديهما وكان ينهم في قراءة كتب ابونا متى وسماع عظاته والتأثر بها وتجد الكثير من الكلمات المشتركة بينهما. وتتعجب حين تعلم أنه لاهوتي من الدرجة الأولى، كنسي إلى الغوص في أعماق فكر الآباء، عاشق للحن الكنسي ويعتبره مدخل لعمل الروح وملؤه. رغم هذا تجد، كما يقال بالبلدي "لا يفرد عضلاته" وهو لم يكن يرغب في الكتابة او يدخل في المناقشات والحوارات اللاهوتية العقيمة لأنه كان يضع نصب عينيه أن يقدم المسيح بكلمات بسيطة عميقة تلمس الروح قبل القلوب. وهذا لا يمنع من أنه إن كتب، تشعر وكأنه كاتب ملهم.

في لحظاته الأخيرة كان ينظر للصورتين اللتين وضعت أمامه، للقديسين البابا كيرلس السادس وأبونا بيشوي كامب. وكان بعد أن فقد النطق في ساعاته الأخيرة، أنه ينظر إليهما ويتمتم بكلمات بسيطة وكأنه يتواعد معهما ليلتقي بهما في المجد.

 ومنذ أن انطلقت الروح الطاهرة التي لأبينا البار وعادت إلى باريها، ذاع صيته وعظاته وكلماته في كل أرجاء المسكونة وصارت تعاليمه في كل مكان ووصلت إلى كل بقاع الأرض.

أحبائي، الكلام عن ابونا لوقا سيداروس يحتاج إلى كتب ومقالات وعظات كثيرة جدا. نعم، لا أخفي عليكم أنه ينتابني شعور إنساني بأن انتقاله خسارة كبيرة جدا للخدمة في كل الكرازة، لكني أعود لإيمان كنيستي، أن انطلاق الروح من سجن الجسد هو بداية لخدمة أعظم وأعمق، خدمة الشفاعة ورفع الطلبات.

أبي، لن أنساك وأعلم أننا في قلبك وفكرك ومازالت تقف أمام العرش الإلهي كما كنت تقف أمام المذبح المقدس لتطلب لأجلنا. نصلي من أجل نياحتك في فردوس النعيم وليصنع معنا الرب رحمة بصلاتك وطلباتك وللثالوث الأقدس وحده كل المجد والبركة الكرامة. آمين.