أحمد الخميسي
في 30 أغسطس الجاري حلت ذكرى رحيل نجيب محفوظ الثامنة عشرة، وبينما اعتنى الكثيرون بدراسة أعماله من مختلف الزوايا والتفاصيل، فإن أحدا قلما اهتم بتأثير الأدباء العظام في نجيب محفوظ، وأذكر في هذا المقام أنهم سألوا الأديب الكبير وكان في التسعين عن الروايات التي مازال يذكرها رغم سنه المتقدمة فأجاب إنها "الحرب والسلام" لتولستوي، ورواية " بودنبروك" للألماني توماس مان، وقال إنه استلهم من العملين رواية الأجيال، يقصد الثلاثية. وبهذا الصدد من المهم استعراض رؤية توماس مان للفن التي طرحها في مقال مهم بعنوان:"عن الفن والفنان" ترجمته د. شريفة مجدي ونشر في مجلة الفكر المعاصر مايو 1970، والمقال مهم للغاية لأنه يفند الرؤية الأدبية التي تروج أن الأدب ابتكار، وإتيان الغرائب، والبحث عن العناوين العجيبة، والاستغراق في الذات، وتقديم أشياء غير مسبوقة. بذلك الصدد يقول توماس مان عن طبيعة الأدب الحقيقي في المقال المذكور: " لا يمكن أن تكون القدرة على الابتكار هي المحك الوحيد لعمل الأديب، بل إنها لتظهر لي قدرة ثانوية"، ويستشهد بقول تورجينف: " بما أنني لا أملك القدرة على الابتكار فإنني بحاجة إلى أرضية معينة أستطيع أن أتحرك عليها بحرية وثقة". ويتساءل توماس مان عن شكسبير واصفا إياه بأنه أعظم من رأته الأرض في الأدب فيقول : " لاشك أنه كان يمتلك القدرة على الابتكار والخيال، لكنه لم يعطها هذا القدر من الأهمية، ولم يستخدمها كثيرا. هل ألف شكسبير حادثة قط؟ المؤامرات المتشابكة في أعماله الكوميدية ليست من ابتكاره.. وكان يفضل أن يبحث وأن يجد على أن يبتكر، وبالطبع قام برسم شخصيات معاصرة له.. لكن الاحياء وليس الابتكار كان عمله، " الاحياء " تلك الكلمة الجميلة ، ليست موهبة الابتكار وإنما موهبة الاحياء هي ما يصنع الفنان.
والإحياء ليس إلا تلك العملية الأدبية التي يمكن أن نسميها بالتعميق الذاتي لصورة الواقع" ويقصد توماس مان أن الأديب حين يتناول الواقع ويقدمه في نماذج فإنه يعمق الواقع من ذاته، لهذا فإن في كل الشخصيات الأدبية لدي كل كاتب كبير جزءا من نفس ذلك الأديب، إنه الواقع وقد أصبح أعمق، وقد اكتسب بعدا جديدا. ويقول عن هذا : " ذلك أن شخصيات كل عمل فني هي انبثاقات للأنا المبدع حتى لو تعارضت معه". ويوجز توماس مان رؤيته في قوله : " إن الفنان يتبين بعمق، ويشكل بجمال". يعيدنا توماس مان إلى مبدأ ارتباط الفن بالحياة، وملاحظتها، ثم احياء الحياة معمقة بذات الفنان، وليس اللهاث وراء البدع والغرائب التي صرفت جمهورا ضخما عن الأدب. وهنا أتذكر عبارة بريخت : " إذا لم تهتم كلماتي بالناس فلماذا قد يهتم الناس بكلماتي ؟ "، وإذا لم يهتم الأدب بالواقع فلماذا يبقى الواقع على ذلك الأدب؟.
أعادني إلى مقال توماس مان الكاتب سمير جريس الذي أشار إلى المقال بمناسبة محزنة هي وفاة مترجمة المقال دكتورة شريفة مجدي التي فارقتنا في 27 أغسطس الجاري بعد رحلة عطاء طويلة، وهي من الرعيل الأول الذي قام بالترجمة من الألمانية إلى العربية مباشرة، وكانت قد سافرت إلى ألمانيا في مطلع الستينيات وحصلت هناك على شهادتها، ثم عملت بالترجمة الفورية حتى أنها كانت المترجمة بين القادة الألمان ورؤساء عرب مثل ياسر عرفات وحسني مبارك، وعلاوة على ذلك قامت بترجمة عدة كتب إلى الألمانية منها كتاب نصر حامد أبو زيد "حياة مع الإسلام" وأعمال الصادق العظم وغير ذلك. مقال توماس مان لمن يريد قراءته كاملا منشور على موقع" أرشيف الشارخ للمجلات الأدبية والثقافية العربية".
نقلا عن الدستور