حنان فكرى

جسد نحيل كالعصفور المُثبت فوق خشبتين، ألبسوه عباءة سوداء كالحة اللون من فرط البؤس، وجه غطاه اصفرار الكآبة، اعتصرته أيام الحرمان القاسية، عينان انطفأ فيهما وهج الشباب، وحاصرتهما هالات الشقاء وسواد الأيام، إنها امراة في السابعة والعشرين من عمرها، جاءتني منذ أيام تبحث عن الحق المسلوب من كيانها، غارقة في نفسها إلى حد التيه، يائسة إلى حد العجز، في محاول لإسكات الألم الصارخ في برية ذاتها بعدما تخلى عنها زوجها المُدمن.

 

إنها نورا- اسم مستعار لحماية خصوصيتها- تزوجت منذ أربع سنوات من شاب لم تبد عليه أية علامات للإدمان، بعد أسابيع قليلة من الزواج اكتشفت عِلته، حاولت إقناعه بالإقلاع عن تناول المخدرات، لكنها فشلت، وبعد أن تعاطى الترامادول، اتجه للحشيش، ثم «الشبو»، الذي يستنشقه ثم يبرحها ضربًا يوميًا، ويواقعها جنسيًا رغما عنها، في مشهد يومي أقرب للاغتصاب، وليس لديها منفذ للخلاص. ووفقًا لتقارير طبيّة، فإن مخدر «الشبو» أو الكريستال ميث أو الآيس كما يطلقون عليه، هي «الميثا أمفيتامين»، هي منشطات شديدة التأثير وسريعة الإدمان، وتسبب حالة من الهلوسة السمعية والبصرية، وقد تدمر القلب وتسبب انفجار شرايين المخ والجلطات، سموه «مخدر الشوارع»، لأنه في متناول الجميع رغم ارتفاع سعره، وكم من جرائم اغتصاب وقتل وانتحار، حدثت على إثر تعاطيه.

 

اجتازت نورا عتمة المعاناة مع آثار تعاطي «الشبو»، تلك المعاناة التي تجتازها زوجة كل مدمن. قلق وخوف، صراع البقاء مع الرحيل، الحب مقابل الألم، الأمان في وجه الخطر من التقلبات المزاجية التي تنتاب المدمن، صراع بين الالتزام تجاه الزوج والأمل في العودة إلى الحياة الطبيعية. حتى أصبحت الكلفة النفسية والجسدية هائلة، فالإيذاء صار توحشًا، وفي ظل التوحش نمت البراءة في رحم نورا، واكتشفت أنها حُبلى فماذا تفعل؟ استسلمت للبقاء، وأنجبت ولداً لم يتحمل أبوه مصروفات ولادته، نعم لأن «الكيف» أهم وأولى بالنسبة له. الكيف وتعلية الحالة المزاجية على حساب كل شىء وأي شىء مهما كان غالياً ومهماً.

 

وكما يقول د. إيهاب الخراط استشاري الطب النفسي والإدمان «الإدمان يضرب في جذور النفس والروح الإنسانية فيدمرها، لأن الإدمان هو تكريس وإخضاع الحياة الشخصية وتسليم النفس لمادة مخدرة تتحكم في سلوك الإنسان، فيتخلى عن كل شىء إلا إدمانه» .

 

وهكذا تخلى زوج نورا عن صلاح إنسانيته، تخلى عن ابنه وزوجته وأسرته لصالح المخدرات، تقول نورا: «عشت امرأة في فراش مُدمن، مُهددة، مُغتصبة، مُهانة، كنت أما لابن في حكم اليتيم، جف طعامه في ثديي، ولم أستطع شراء اللبن لأطعمه، لم يكن لدي عمل، ولا مال، أسرتي فقيرة والدي متوفي، والدتي أرملة عجوز مريضة، وحينما طلبت منه شراء اللبن للولد، انتابته نوبة غضب شديدة، نوبة غضب دمرت حياتي التي بالكاد أرمم كل يوم بعضا منها ومني، إذ ليس لي ملاذ ولا عائل، وفي ذلك اليوم تلقيت ضربا مبرحا أشد من أي مرة سابقة. خاوية اليدين حافية القدمين طردني من بيتي، لم يكن لدى ملجأ سوى بيت أسرتي، حملت ابني ورحلت، وكان عمره سبعة أشهر، حاولت العودة فوجدته قد باع السكن، واختفى، ابني عمره ثلاث سنوات وما زلت معلقة لا أنا مطلقة ولا أنا زوجة، ولا أعلم ماذا افعل».

 

صارت نورا معلقة بين حقها في الحرية والتجمد عند لحظة الفرار من المنزل، اللحظة التي توقفت فيها حياتها فلا هي زوجة ولا مطلقة، ولا تعرف ماذا تكون، فعقيدتها «المسيحية» لا تسمح لها بالطلاق، والإجراءات المدنية بالمحاكم معقدة وطويلة، وتحتاج مبالغ ضخمة، وهي امرأة كل طموحها إطعام ولدها فماذا تفعل؟.

 

تواجه نورا وكل زوجات المدمنين أزمات متعددة، فتشق الواحدة منهن هجمات الحنين للاكتمال بآخر أمين، للاستقرار بعد أن عشن حياة مضطربة، تحكمها تقلبات مزاج الزوج المدمن، وإهماله لمسؤولياته، هجمات الحنين للأمان، وخلع العنف عن جسدها، أن تنسى تخليه عن واجباته المادية، أن تهدأ وتطمئن إلى أن هناك من تستند اليه وقت الضيق، إذ تعاني زوجة المدمن من ضغوط نفسية واجتماعية ومالية شديدة، فأبسط حق لها رفع المعاناة عنها. ومنحها فرصة جديدة للعيش والحصول على الاستقرار. لكن القوانين لا تعترف بعجلة الزمن، فكم من نساء بدأن رحلة التفريق في سن الشباب، وحصلن على حرياتهن بعد فوات الأوان.

 

فماذا ينتظر صدور قانون الاحوال الشخصية للمسيحيين، الذي تم التوافق على مشروعه منذ سنوات في مايو 2019، وأتاح توسيع أسباب بطلان الزواج، في العقيدة المسيحية، لتشمل الإدمان والإلحاد والأمراض المعدية الخطيرة مثل الإيدز، والتى يستحيل معها استمرار العلاقة الزوجية؟

 

في تجاهل لأوجاع الناس اعتبروه سراً حربيا، يجب التكتم حوله، ولم نر القانون حتى الآن، والواقع يخبرنا بأن النقاش المجتمعي منقوص،. واللهاث المحموم لضحايا الأحوال الشخصية يخبرنا بإعداد دعاوى الطلاق المرفوعة امام المحاكم المصرية، والتي بلغت 279 الف حالة طلاق -ووفقا لإحصائية أجرتها وزارة العدل- من كافة الطوائف المسيحية، فكيف لقانون تتحكم آثار سريانه على الحياة الشخصية لشريحة من المواطنين يتجاوز عددهم العشرين مليون، أي ما يقترب من ربع سكان مصر، أن يبقى حبيس الأدراج كل هذا الوقت؟ ألا تستحق هذه النفوس رحمة عاجلة، عدالة ناجزة؟! فالعدالة المؤجلة ظلم بيَن، وطول انتظار الرحمة يلفظ طُلابها. والشفافية التي قد تجلب الهجوم، خير من التكتم الذي فقط يؤجله.

 

 

آلاف الأسر المعلقة على صلبوت الانتظار منذ سنوات، مصائر الأبناء مربوطة بعصا القانون، مستقبل الزوجات والأزواج قيد التأجيل لنوال تصاريح الزواج التي قد تأتي بعد فوات الأوان، وذبول العمر، وضياع الفرص، فمتى يتم الإفصاح عن كامل مشروع القانون، وإقرار القانون لحل أزمة التطليق، التي تحولت إلى مصنع لإنتاج المآسي النفسية والاجتماعية؟.

نقلا عن المصرى اليوم