عادل نعمان
.. ويظل الإنجاز البشرى عبر التاريخ هدفًا محمودًا وفى المقدمة، لأنه يلبى ويستجيب ويساير مطالب الناس وطموحاتهم، فى الطب والصناعة والزراعة والتجارة والاجتماع وكافة مناحى الحياة، هذه الإنجازات منها ما كان مطلبًا حياتيا لاحتياجات الناس ومازال ملبيًا لها، ومنها ما كان بعد صراع ضد قوى الظلم والتخلف وما زال أيضا على الدرب يسير، فكان هذا الإنجاز الحضارى بشقيه المادى والثقافى هو الثمرة التى وجب على الناس العمل على إدراكها وإنضاجها وجنى ثمارها، وليست هذه الإنجازات العظيمة مسؤولة بأى حال عن الاستخدام السيئ لها عن طريق البعض، وهذا أمر مطلوب أن يحدده القانون ويضبطه، كتنظيم التبرع بالأعضاء وبيعها وكذلك استخدام شبكة التواصل الاجتماعى والتطبيقات الذكية، ومن يقف ضد هذه الحركة الإنسانية رافضا أو معترضا أو متكاسلا تحت دعاوى دينية أو غيرها، سيخرج حتما من عجلة التطور الإنسانى هائما فى صحراء التخلف، وسيكون هو أول النادمين.
وليس من الحكمة أو العقل أن تكون مظلة المجتمع وثقافته ومستقبله وحركته رهينة الدين فقط، أو الشريعة بمعناها الواسع الرحب، منها ما هو بشرى صرف ومنها ما هو إلهى قد تم تفسيره بشريا أيضا، أو كان حكمه فى زمن قد ضاق على الناس تعريفه، أو كان نشأته على ضلال وإفك فإن مظلة المجتمع أرحب وأوسع تتمدد وفق احتياجاته ورغباته فيستظل بظل العلم ويلتحف بالعالم كله شاء من شاء وأبى من أبى، فقد كانت الكيمياء فى زمن حرام على المسلمين العمل بها، الكيمياء على باطل وحرام وهى من أعمال أهل الكفر والفسوق، وقد كانت من أعمال السحر والشعوذة فى بداياتها وتحت نفس المسمى «الكيمياء» وكان تحريمه على الفعل وليس اللفظ إلا أن العيب أن تظل فئة منهم على نفس المنهج دون النظر إلى الفائدة العامة العظيمة لعلوم الكيمياء والتى تشكل القاعدة الأساسية لكل العلوم فى هذا التطور الإنسانى المذهل، وكذلك نقل أعضاء من الخنزير للإنسان لتطابقهما جينيا بحجة أن أكل لحم الخنزير حرام، وهو أمر تجاوزوا فيه حدود التحريم والمعقول أيضا، وهكذا فى كثير من المتشابهات فى تاريخنا، نأخذ منه ظاهر القول دون تخطيه إلى جوهر الأمور والفائدة المرجوة منها.
ولم يكن من سبيل أو مجيب للناس غير الكهنة ورجال الدين، فهم رجال علم واقتصاد واجتماع وحكم ولم يكن لغيرهم سلطان أو نفوذ على خلق الله فى كل مناحى الحياة سواهم، فكان لهم السطوة والنفوذ والسلطان «افعل ولاتفعل»، وقد كان الإسلام صاحب النظريات جميعها فى الاقتصاد والاجتماع والزراعة والطب وغيرها، واختلط على الناس الأمر ما بين نظريات وخبرات إنسانية متوارثة فى تسيير أمور الدنيا، وبين أحكام دينية وشرائع، لكن تم اعتماد ما كان قائمًا من أمور الناس على أنها من أمور الدنيا والريادة والقيادة وليست من أمور الدين، فتم اعتماد كثير مما كان الناس يؤيدونه ويعتمدونه، والموافقة على كثير مما توافق الناس عليه، إلا أن المشكلة هذا الخلط بين أمور الدنيا والدين، وأحكام إلهية وبشرية إنسانية، وأضحت المشكلة الآن تقديس الحلول التى جاءتنا من اجتهادات.
«ونفتح الباب ونتصارح» الفيلسوف الفرنسى «أوجست كونت» يتحدث عن التلازم العكسى بين تطور العلم وتراجع الدين، فالتطور العلمى يجيب عن كافة الأسئلة، والمجتمعات قد تجاوزت مرحلتين هامتين فى حياتها، وهى المرحلة الأولى «خرافية وهمية» والثانية «غيبية مجردة» وتصل حاليا إلى مرحلة «العقلانية العلمية» وفيها تسود المعرفة العلمية كل مناحى الحياة، ويفترض أن هذا تهديد للأديان، ويبدو فى الظاهر أن صراعا بين العلم والدين، كل يخشى من طغيان الآخر، وعلى الرغم من تراجع الدين فى البداية أمام صدمات الحداثة إلا أن الدين يظل ثابتا عند المواجهة. التصاعد الجديد للدين فيما يشبه الهجوم المضاد «بل وتعبر عن نفسها بعنف» الفيلسوف هابرماس «يرى أن المرحلة القادمة هى مرحلة ما بعد العلمانية، ويرى الحل على النحو التالى: أولا على العلمانية أن تكف عن المراهنة على زوال الدين، وتعترف بأهميته، وعلى رجال الدين تجاوز هذا التفاوت المعرفى، والقبول بالمفهوم القانونى فقط وليس الشرعى، وأولوية الدولة الدستورية، والإيمان بالحرية والمواطنة، ونخرج من الباب وأقول للسيد الفيلسوف «لن يتراجع رجال الدين ولن يصيبوا الهدف، والصراع يحسمه العلم ويدركه كل يوم مهما ظهر العنف والتطرف والمسيرة تستمر وتستقر شراعها وترسو.
«الدولة المدنية هى الحل».
نقلا عن المصرى اليوم