د. وسيم السيسي
وصوته يأتينا من وراء ألف عام:
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى/ إنى أخاف عليكم أن تلتقوا.
مضى مقطوع النسل، مجتث الفرع، ولكنه خلد نفسه بفكره بما لم يخلده ذوو الكثرة من الأبناء والأحفاد.
كان متوهج العقل، قال عن نفسه: ما سمعت شيئًا إلا وحفظته، وما حفظت شيئًا ونسيته!. كان متواضعًا، قال: قالوا عنى أبا العلاء، وهذا مين «كذب»/ والحق أنى أبوالنزول!. كان زاهدًا، عرض عليه أمير المؤمنين أن يكون ناصحًا ومشيرًا له.. اعتذر برسالة جاء فيها: وأمير المؤمنين يأمر للكسير بالجبر، كيف يأمر بإخراج ميت من قبر!، وقال لمريديه: توحد، فإن الله ربك واحد، ولا ترغبن فى عشرة الرؤساء. كان متشائمًا، كيف لا، والناس شِيَع وطوائف، القرامطة يعترضون الحجيج ويهجمون على مكة، وينزعون الحجر الأسود، لم يخلُ عام من جدب عام أو مجاعة شاملة أو وباء خطير، الحنابلة، السنة، الشيعة، المعتزلة، لهذا لم يبغض حياته ويمقت عصره ويسخط على أمته لشىء قليل، قال: تسوسون الأمور من غير عقل/ وتقولون إننا ساسة فأُفٍّ من الحياة ومنى/ وزمن ساسته خساسة.
وقال: يا ربِّ عجِّل بالقضاء هذا العالم منحوس/ ظلموا الرعية واستجازوا كيدها، علام يأخذون جزية ومكوس!. كانت سمعته الفكرية واللغوية قد طبقت الآفاق. فى زيارته لمجلس الشريف الرضى فى بغداد، تعثرت قدمه فى قدم أحد الجالسين، فقال الجالس: إلى أين يا كلب؟، رد أبوالعلاء: الكلب مَن لا يعرف للكلب سبعين مرادفًا!. قال الجالس: لا يعرف للكلب سبعين مرادفًا إلا رجل فى معرة النعمان يُدعى «أبا العلاء»!. رد أبوالعلاء: أنا هو، قام الرجل معتذرًا وأجلسه فى المكان اللائق به.
اعتدى بعض الصبية المتشردين على خمارة فى معرة النعمان، جاء الحاكم العسكرى «صالح بن مرداس» أحاط القرية بالمنجنيق وبدأ فى ضربها حتى يسلموا هؤلاء الصبية إليه «سيادة القانون بالرغم من أنها خمارة»، عرف الأهالى أن أولادهم هالكون لا محالة، طلبوا من أبى العلاء أن يتوسط لهم عند القائد، ذهب أبوالعلاء، رحب القائد به، طلب منه شعرًا، قال:
فلما مضى العمر إلا الأقل/ وحان لروحى فراق الجسد
بُعثت شفيعًا إلى صالح/ وذاك من القوم رأى فسد
فيسمع منى سجع الحمام/ وأسمع منه زئير الأسد
ابتسم القائد وقال: إنما نحن الذين نسمع منك زئير الأسد يا أبا العلاء.
أيها المفكر الحر، البصير الضرير، بعتَ الدنيا لتشترى شرف ضميرك ورأيك، تناضل معنا حتى اليوم منذ ٩٧٣م حتى تكشف لنا الغطاء عن غياب العقل والوعى، وفساد أدعياء الدين حتى قلت:
وقد فتشت عن أصحاب دين/ لهم نسك وليس لهم رياء
فألفيت البهائم لا عقول/ تقيم لها الدليل ولا ضياء
وإخوان الفطانة فى اختيال/ كأنهم لقوم أنبياء
فأما هؤلاء فأهل مكر/ وأما الأولون فأغبياء
وحين جاءك مَن يعظك قلتَ له:
توهمتَ يا مغرور أنك ديِّن
على يمين الله ما لك دين
لا تحزن يا أبا العلاء، فقد قلت: بنو الفضل فى أوطانهم غرباء/ تشذ وتنأى عنهم القرباء، فقد أنصفك الدكتور طه حسين فى رسالته للدكتوراه، كذلك بنت الشاطئ، كذلك بلاسيوس الإسبانى، مرجليوث، نيكلسون الإنجليزيان، كذلك كراتكوفسكى، عميد المستشرقين الروس، ولو كان الأمر بيدى لأمرت بتدريس أفكارك فى المرحلة الثانوية، سوف يتعلمون منك أن الله أعطاهم عقلًا، فكيف يقبلون من أدعياء الدين ما لا يقبله العقل؟!. وسوف يحفظون عنك:
كذب الظن لا إمام سوى العقل/ مشيرًا فى صبحه والمساء
فإذا ما أطعتَه جلب الرحمة/ عند المسير والإرساء
سلام وألف سلام عليك يا أبا العلاء.
نقلا عن المصرى اليوم