أحمد الخميسي 
يقول" ميفلين" بطل رواية المكتبة المتنقلة: " لا يحق لمخلوق على وجه الأرض أن يعتقد أنه انسان إذا لم يكن قد قرأ كتابا واحدا جيدا على الأقل"، وقد بلغ إيمان " ميفلين" بالكتاب حد أنه اشترى عربة يجرها حصان وضع فيها قدر ما اتسعت له من الكتب وراح يجوب القرى مع كلبه الصغير يروج للارتقاء بالشعور والفكر.  ويقول العجوز " ميفلين" في موضع آخر : " نحن عندما نبيع كتابا لرجل فنحن نبيعه حياة جديدة بأكملها، الحب، والصداقة، والفكاهة، والسفن في عرض البحر ليلا، والسماء والأرض بأكملهما موجودان داخل الكتاب".
 
هذه الرواية الجميلة تأليف الكاتب الأمريكي كريستوفر مورلي الذي توفي عام 1958وقد صدرت هذا العام بالعربية في ترجمة جيدة قامت بها إيناس التركي. الكتاب إذن هو موضوع رواية " المكتبة المتنقلة" الذي عالجه الروائي بذكاء وعمق ولطف وفكاهة. رحت أستعيد تاريخ المكتبات في حياتي، المكتبة الاولى التي كانت في صالة شقتنا بالعباسية عام 1953،
 
وكنت في نحو السادسة لا أجيد حتى فك الحروف، لكنها ارتبطت عندي بمشهد محدد، حين اقتحمت قوة من الشرطة الشقة بحثا عن والدي ووقف الضابط أمام المكتبة يقلب الكتب، ثم أمسك بين يديه كتابا من تأليف والدي اسمه" صيحات الشعب"، فصحت فيه محتجا : " هذا كتاب بابا "! وكنت أقصد أنه ملك والدي. ومع اعتقال والدي انتقلنا للحياة مع جدي لأمي، وهناك برزت مكتبة أخرى، هذه المرة كانت عبارة عن رفين من الخشب عليهما عدد قليل من الكتب أغلبها لعباس العقاد نفرتنى عناوينها الجادة التي لا تناسب طفلا أو صبيا،
 
ثم انتقلنا للسكن في شارع مصر والسودان بعد خروج والدي من المعتقل، وهناك بدأت القراءة من المكتبة التي نهضت في الصالة، وكانت تحتوي على عدد كبير من الروايات الروسية المترجمة  ورحت ألتهمها واحدة بعد الأخرى، وحين انتهيت منها اكتشفت مكتبة أخرى على رصيف فيلا مهجورة بجوارنا صاحبها عم حجازي فكنت أخرج من المدرسة يوميا وأتجه إلي عم حجازي، أعطيه نصف قرش، وأجلس على الرصيف بجانبه أطالع كل ما يسعني من دون أن يحق لي أن أخذ كتابا،  وحين تحل العتمة أنصرف. من هذه المكتبة قرأت رواية " ذات الرداء الأبيض
 
" لويلكي كولنز، وأغلب ما نشرته سلسلة " كتابي" لحلمي مراد وغير ذلك، وظل في قلبي كل ما قرأته حينذاك كالحب المبكر، ثم انتقلنا إلى شارع نوبار وعندها انفتحت أمامي مكتبة مدرسة المبتديان الثانوية فكنت أستعير منها ما أشاء، لكن أمي كانت تلزمني بالنوم مبكرا، فأخذت أشتري شموعا لأقرأ عليها ليلا في الحمام لكي أتفادى أن يفضحني نور اللامبة إذا تسرب من فتحة الباب. في تلك السنوات غمرني مكسيم جوركي بحماسته للفقراء، فرحت أسود أبواب الحجرات راسما عليها عبارته : " جئت إلى هذا العالم لكي أختلف معه" حتى صرخت أمي في: " خلاص عرفنا إنك جئت تختلف اترك بقى الأبواب في حالها حرام عليك". وقد وهبتني المكتبات حياة كاملة مختلفة، عامرة بالأفراح والتأمل والتعاطف مع ألاخرين، وظلت بعض الكتب شابة في قلبي حتى الآن، تتحرك وتتكلم لا ينال منها الزمن، مثل أعمال أنطون تشيخوف ويوسف إدريس، وشاخت كتب أخرى لكن بعد أن قامت بدورها، والمؤكد أن نصف حياتي كان من الورق وإن لم يسعدني الحظ بلقاء شخص مثل " ميفلين" بعربته ومكتبته المتنقلة وكلبه الصغير وشغفه بالخيال والبشر. 
الدستور الأحد ٨ سبتمبر ٢٠٢٤