د. منى نوال حلمى
لن أتخلى عن قناعتى، تؤكدها تجاربى فى الماضى والحاضر، أنه من الأشرف والأكرم للإنسان أن يسكت عن الإدلاء برأى، يعلم تمامًا أنه «مضلل».
إن «التضليل»، بكافة أشكاله، ودرجاته، من الأفعال غير المبررة، وغير المستساغة.
وكلنا يعلم أن هناك تهمة «تضليل العدالة» لأى شخص يقدم معلومات خاطئة، تعوق سير التحقيقات فى الجرائم، وعقوبتها الحبس، تتراوح مدته حسب ملابسات القضية. والبعض يرى أن «تضليل العدالة» يمكن أن يكون أبشع من الجريمة نفسها، لأنه يتستر على الجانى، يريد إعفاءه من المسؤولية، مستهينًا بحق الضحية، والمجتمع.
فى الولايات المتحدة الأمريكية، نظرًا لخطورتها، تعتبر تهمة «تضليل العدالة» جريمة فيدرالية مثل الاتجار بالمخدرات، والجرائم الجنسية، وانتهاكات الأسلحة النارية، وانتهاكات قوانين الهجرة.
هناك أشخاص تواجهنا يوميًّا، يتقنون فن التضليل، ويفعلون ذلك بدم بارد.
هؤلاء الأشخاص، نساء ورجالًا، يحملون الجنسية المصرية، لكن مصلحة مصر، إذا قورنت بمصالحهم الشخصية، فإنها تتوارى، وتسقط فى القاع. والوطن الذى انتظر طويلًا، لكى يصحح مساراته، وتحيطه التحديات من كل الجهات، ويحتاج إلى تشخيص نزيه لموطن الداء، يصبح لديهم لقمة سائغة، يتلقفونها فيما بينهم، ويتنافسون منْ هو الأكثر شعبية ونجومية فى مهنة التضليل.
وفى مجتمع يعانى الأمية الأبجدية، والثقافية، فإن الرسائل المضللة المتكررة، كل يوم، تجعلها تقريبًا، فى حكم الثوابت، والمسلمات، المحظور مناقشتها. إن الأكاذيب حتى لو كانت ساذجة، غبية، مضحكة، فان تكرارها يجعل الناس يصدقونها، ومن بينهم الذين قاموا بتأليفها ونشرها.
كل يوم، تزداد شهرة هؤلاء الأشخاص، ويتثبت تربعهم. وبالتالى يزدادون غرورًا، وإمعانا فى تضليلاتهم. يعيشون فى سعادة، فخورين بإنجازاتهم المتواصلة. لكننى أعتقد أن السعادة ليست كل شىء فى الحياة. من أين تأتى السعادة؟ هذا هو المقياس. فالسعادة التى تتحقق على حساب الآخرين لا تسعد. قال الفيلسوف الألمانى «إيمانويل كانت» أحد أعمدة التنوير الأوروبى ٢٢ إبريل ١٧٢٤ – ١٢ فبراير ١٨٠٤، «لا يهمنى كثيرًا أن أعيش بسعادة، ولكن أن أعيش بشرف».
وكما قلت فى البداية، فإننى أعتقد أنه من الأشرف والأكرم للإنسان أن يسكت عن ارتكاب فعل التضليل، الذى أراه يماثل بالضبط، وبكل دقة، أن يسكب الإنسان العطر، فوق أكوام القمامة.
وإذا لم يستطع الإنسان فعل ذلك بنفسه، فليس عيبًا أن يطلب المساعدة، ويترك المهمة لغيره القادر على المهمة. لكن الاحتفاظ بالقمامة، وتراكماتها، ورشها بالعطور، لتحسين الصورة، والتخفيف من الروائح الكريهة، فهذا سلوك فى عداء أصيل مع النظافة، والصحة والتحضر. كما أنه لا يجمل الوضع. على العكس، لأن الهجين المتولد من تزاوج القمامة بالعطر، هو «مسخ» أكثر قبحًا، فى الشكل، والرائحة. لا هو بالقمامة ولا هو بالعطر. هذا هو الفارق الجوهرى بين المجتمعات المتقدمة، التى تنظف قيمها، ومفاهيمها، وثقافتها وتشريعاتها وقوانينها، أولًا بأول، ولا تقبل بتراكم قمامة العقول، وتضليل الناس عن عواقبها الصحية والحضارية الوخيمة، برش العطور فوقها.
كل يوم تتسع الفجوة بيننا وبين الشعوب التى اعترفت بكل تواضع ونزاهة بأخطاء الماضى، وقررت جديًّا عدم إضاعة الوقت، فى تكرار تجارب مريضة، معوجة الرؤية، مختلة التوازن، أثبتت فشلها وإجرامها فى حق الإنسانية، والرقى الحضارى.
والمشكلة فى بلادنا ليست فقط رش أو وضع العطور، فوق قمامة العقول، التى تأكد عدم صلاحيتها فى إنجاز أى منتج حضارى يفيدنا وينفع البشرية، ولكنها أيضا، فى التعامل مع هذه القمامة، وكأنها من المقدسات. والمعترض على حمايتها ورشها بالعطور هو بالضرورة عضو فاسد، خبيث النوايا، وجزء من مؤامرة كونية تهدف إلى طمس هويتنا، ويجب عزله وبتره.
والأمثلة كثيرة لا تحصى على قمامة العقول، التى ترش يوميًّا، من هؤلاء المضللين، وكم يبهرنى حقًّا، تلك الثقة العالية، أو إذا شئنا الدقة، «البجاحة» التى يدافعون بها عن قمامة العقول، وعن ضرورة حمايتها من الغزوات الخبيثة لشركات
النظافة، والمتطوعين من جبهة تطهير وتجميل الوطن. وكلنا نعلم ما هى البجاحة، وكم هى منتشرة من حولنا. على سبيل المثال، الإنسان «البجح»، هو القائل: «إدينى حسنة وأنا سيدك». أو هو الذى ينزل ضيفًا على أحدهم، ثم يعطى نفسه الحق فى تغيير أوضاع وألوان الأثاث فى بيت لا يملكه، واعادة صياغة العلاقات والقانون، بين أفراد البيت، بل يعتبر أن صاحب البيت هو المدين له؛ فقد سخره الله سببًا، لأن يفعل الخير، ويأخذ ثوابه. وتنقلب الآية فى مشهد عبثى غريب، حيث يصبح «الآخذ» هو «الدائن»، و«المعطى» هو «المدين». «يقتل القتيل ويمشى فى جنازته»، ألا يعبّر هذا المثل الشعبى عن قمة «البجاحة»؟.
لا يمر يوم إلا ويشهد المضللون انتصارات جديدة فى كل مجال، للبلاد التى لا تتعايش، ولا تتصالح، ولا تنام فى فراش واحد، مع قمامة العقول. ولا يمر يوم، إلا ويشهد هزيمة جديدة للبلاد التى ترش العطور على قمامة العقول، ومخلفات الفكر.
ولكنهم بارعون فى إيجاد تفسيرات كثيرة، ليس من بينها رش العطور فوق قمامة العقول المتراكمة.
من مقولات المهاتما غاندى ٢ أكتوبر ١٨٦٩ - ٣٠ يناير ١٩٤٨: «لا أسمح لأى إنسان أن يدخل عقلى بأقدام متسخة».
ورغم أننى من عشاق «غاندى» فإننى أختلف معه، قائلة: «حتى لو كانت أقدامه نظيفة، لا يجب أن نسمح لأحد أن يدخل إلى عقولنا».
بعض الناس يفرضون على ضيوفهم بكل صرامة، خلع الأحذية على عتبة الشقة من الخارج، خوفًا من دخول الأوحال والقاذورات. ليتهم يفعلون الشىء نفسه، مع عقولهم.
«العقل» هو بيتنا الحقيقى، ومناعتنا القوية. لماذا نبخل عليه بالنظافة والتجدد، وتوفير الأمن اللازم لمهمته النبيلة؟.
و«العقل» مثل المظلة، لا يعمل الا إذا انفتح. و«العقل» لا ينفتح إلا بالتخلص من الأدران المتراكمة عبر الأزمنة.
خِتامه شِعر
منذ أن وعيت
وجئت إلى الوجود
أشترى راحتى دائمًا
بالابتعاد والصمت والشرود
أتجاهلهم حين يصفوننى
باللامبالاة والغرابة والبرود
تفصل بينى وبين البشر
آلاف الحواجز والحدود
أطير عاليًا وإن تكسرت أجنحتى
وهم يسجدون شكرًا وامتنانًا
للسلف والجدود
يهدرون الوقت والأموال
فى زراعة الألغام
وصناعة البارود
وأنا أزرع بذور التمرد
وأصنع من الشعر أثوابى
تهبنى الخلود
على باب شرنقتى الدافئة
أكتب بدمى وصيتى
وأسرار قلبى
وحين أقرر الرحيل
سأغزل كفنى
بأغصان الشجر وأوراق الورود
نقلا عن المصرى اليوم