سحر الجعارة
(زدنى بفرط الحبِّ فيكَ تحيُّراً.. وارحمْ حَشىً بلظى هواكَ تسعَّرا، وإذا سألتك أنْ أراك حقيقة فاسمَح.. ولا تجعل جوابى لن تَرَى).. الكلمات لسلطان العاشقين «ابن الفارض».. والصوت فلسطينى «ريم بنا». (تجليات الوجد والثورة).. بورتريه إنسانى.
«ريم بنا» المناضلة وصوت فلسطين الحر وأبرز أيقونات المقاومة، دوماً ما اعتبرت السرطان بمثابة احتلال أكثر منه مجرد مرض، وسعت دوماً فى عراكها المتواصل معه، على مدار 9 سنوات طوال، أن تهزمه وتحرر روحها منه، وأصبحت أيقونة للمقاومة والأمل للملايين من جمهورها ممن وجدوا فيها رمزاً للصمود رغم الألم. ما أبشع أن تمرض «تحت الأضواء».. أن ترصد الكاميرات والصحف لحظات انكسارك، وتعد عليك آخر أنفاسك.. ما أتعس «الفنان» حين تتحول الأضواء إلى نظرات شفقة أو عبارات «رثاء» عادة تأتى متأخرة!.
فى عام 2016 توقفت الفنانة الفلسطينية الراحلة «ريم بنا» عن الغناء، وهى التى كانت شغوفة بالموسيقى منذ نعومة أظافرها، وبعدما تخرجت فى المدرسة الثانوية، قررت احتراف الغناء فسافرت إلى موسكو للدراسة فى المعهد العالى للموسيقى.. لقد قهرت «سرطان الثدى» الذى اكتشفته عام 2009.. لكن المرض عاد وهاجمها فأعلنت توقفها عن الغناء عام 2016، بعد إصابة أوتارها الصوتية.. وكتبت يومها تقول: (إن صوتى الذى كنتم تعرفونه توقف الآن عن الغناء، الآن أحبتى، وربما سيكون ذلك إلى الأبد). كانت «ريم» صلبة مثل شجر الزيتون الذى روته بمسقط رأسها بمدينة «الناصرة» الفلسطينية، مؤمنة بقضيتها وبقدرة «صوتها» على توصيل رسالة للعالم أجمع أو «صرخة» فى وجه الظالمين تؤكد الحق الفلسطينى.. فقد تربت فى أحضان والدتها الشاعرة المعروفة «زهيرة صباغ»، رائدة الحركة النسوية فى فلسطين.
«ريم» التى اشتهرت بأغانيها الوطنية، ركزت اهتمامها على تقديم التراث الفلسطينى للعالم، وعرفت بمساهمتها الكبيرة فى الحفاظ على الكثير من الأغانى التراثية، لا سيما أغانى الأطفال.. وشاركت فى العديد من المهرجانات المحلية والعربية والدولية، فالأغنية -هنا- أقوى من الرصاصة.. والتراث الفلسطينى ينطق بصوت «أطفال غزة».. لكنها صمتت مكرهة، لقد خنق السرطان أحبالها الصوتية!. قد يكون «السرطان» أو «الإيدز» أو أشهر الأمراض التى ينتفض العالم لمواجهتها، ويدشن الحملات لمواجهة تلك الأمراض بالتوعية والتشخيص والعلاج.. لكن هناك من يموتون فى صمت، محرومين حتى من «الاستغاثة» مثل مرضى تليف الرئة الذين يحرمهم دراويش مصر من نقل الرئة من المتوفى!.
لا أحسب أن «ريم» ماتت بالسرطان، لقد ماتت قهراً وكمداً على بلدها الضائع.. فقد ظلت متمسكة بالأمل لآخر لحظة.. وقبل أسبوعين من وفاتها، كتبت لأولادها على حسابها فى موقع «فيس بوك» رسالة مؤثرة، حاولت خلالها تخفيف وطأة هذه المعاناة القاسية عليهم، فاخترعت سيناريو خيالياً وكتبت: لا تخافوا.. هذا الجسد كقميص رثّ.. لا يدوم.. حين أخلعه.. سأهرب خلسة من بين الورد المسجّى فى الصندوق.. وأترك الجنازة «وخراريف العزاء» عن الطبخ وأوجاع المفاصل والزكام... مراقبة الأخريات الداخلات.. والروائح المحتقنة.. سأجرى كغزالة إلى بيتى، سأرتب البيت وأشعل الشموع، وأنتظر عودتكم فى الشرفة كالعادة، أجلس مع فنجان الميرمية، أرقب مرج ابن عامر، وأقول: (هذه الحياة جميلة.. والموت كالتاريخ.. فصل مزيّف). لكن الحياة ليست جميلة بالنسبة لأى مريض.. فالمرض هو «الفصل المزيف» فى العمر، فصل الخريف المبكر الذى تتساقط فيه وظائف الجسد، وتترك «العقل» يتأمل الواقع المرعب، والقلب يتألم من أجل فراق الأحباء.. خصوصاً «الأطفال». رحلت «ريم» تاركة خلفها ألقاباً كثيرة: (سفيرة السلام فى إيطاليا عام 1994، وشخصية العام من وزارة الثقافة التونسية عام 1997).. وقضية عالقة بين (المفاوضات والمقاومة المسلحة)!. تركت تراثاً لا يزال أطفال فلسطين يحفظونه عن ظهر قلب ويتغنون به كما علمتهم.. وتركت فراخها الصغيرة دون «حضن آمن».. يعيشون فى هلع ما بين همجية الاحتلال وفقدان «الأم - السند».
أليس غريباً أن البعض يولد ليرث عرشاً ملكياً.. والبعض الآخر يولد ليرث أمراضاً سكنت بجينات الأبوين منها «السرطان»؟!.
-عنوان المقال هو نفس عنوان آخر ألبوماتها «تجليات الوجد والثورة»، الذى اصطحبتنا خلاله للغوص فى عالم الشعر الصوفى.. وقد ضم قصائد شعرية لرابعة العدوية، وابن الفارض، والحلاج، وابن عربى، أما بقية الأغانى فهى لشعراء عرب، من بينهم محمود درويش، وراشد حسين، شاعر المقاومة الفلسطينى، وبدر شاكر السيّاب.. كانت ريم «حلماً» تحرر من أسر الاحتلال وانطلق إلى عالم أرحب.
نقلا عن الوطن