حنان فكري
ننمو حاملين معنا صندوق الذكريات الأليمة، نغرف منه لنصب في الحاضر المسكين، وفي زهو الانتصار المُزيف نُصدر أحكامنا الكفيفة على الأيام الآتية من رحم التجارب المُرة، غير عالمين بالهزائم الخفية أو الانتصارات الزائفة، فخلف كل انتصار مُزيف ترقد خيبات الماضي، وتجارب الخذلان، وأشباح التخلي في عهد الطفولة والصبا، تُسقط ما خبأته في مغارتها السرية على كل علاقة لاحقة، إلى أن تصطدم بالزيجة، مُجبرة على العيش مع آخر تصنع منه المعايشة مرآة لتلك الأحكام، تنتفض النفس المحبوسة في العتمة، بين خيارين أحلاهما مُر، إما المواجهة والتغيير، أو الاستسلام للانتصار المزيف.
يستسلم السواد الأعظم للزيجات المُطاردة بالإجبار المُقدس، والانصياع لقوانين ولوائح يستغرق تغييرها أعمار من تُطبق عليهم، ويطول الانتظار وتستنزف الزيجة المطاردة الروح والجسد، وتحولهما لبقعة مُستعمرة بالخوف والاضطراب، علاقة مسكونة بشيء بغيض ملعون، طافحة بالصراع، جاثمة على صدور الأزواج والزوجات، وكأنها عقوبة أبدية مستحيلة الفرار.
هذا ما عاشه يوسف – اسم مستعار لحماية الخصوصية- حائرا جاء، مخذولا حزينا، قارعا صدره بكفيه يقول: «عشت أسوأ سنوات عمري محاولا التكيف مع زوجة لا تعرف عن الزيجة سوى الانتهازية، تزوجتها قبل أربعة عشر عامًا، أنجبنا طفلة عمرها الآن 13 سنة، لا يمكنني رؤيتها إلا بالطلب والإذن، تخلت زوجتى عن الصورة المزيفة التي رسمتها لي في فترة الخطوبة، تحولت إلى كائن مزعج متسلط، يختلق المشكلات من لا شىء، عبثا حاولت التكيف مع نوبات الغضب العاتية التي تنتابها، ونفورها المتصاعد ضدي، يوما بعد يوم صارت علاقتنا كالوادي المُفخخ بالانفجار مع كل كلمة أو مناقشة، صرتُ غريبا في بيتي، ولدا في رجولتي، شاخت مشاعري وتجمدت ويئِستُ منها، كنت أهرب من فشلي في الزيجة إلى عملي، الذي يتطلب سفري بين الحين والآخر، وهي لا تكف عن استنزافي ماديا وعصبيا، صرت ممزقًا بين رغبتي في التحرر منها والتزامي بوصايا عقيدتي التي لا تبيح الطلاق إلا لعلة الزنا، واخترت الاستمرار، فلم يكن أمامي أي بديل مقبول دينيًا.
ذكرياتنا الأولى مدفونة تحت رماد الحاضر المُفزع، وبمرور الزمن وتزايد حدة الاحتقان، انتفخ قلبي من الصبر، وتحولت للعند والتحدي والضرب أحيانا، كنت أرى الذعر في عيون ابنتي ولا أصده، وكيف لي وأنا مذعور للحد الذي أفقدني رجاحة عقلي، فضننت عليها بالمال والمعاملة الطيبة، وهكذا صرنا أشباحًا تتخبط بين جدران أربعة لا تتسع لتضم كلينا مع البنت، لم يكن واضحا لي سببا مباشرا لسلوكها، الذي علمت لاحقا أنه مدفوع بالخوف وتأمين حياتها بسبب خبرتها بين أبوين منفصلين جسديا، يتشاحنان على الإنفاق عليها ويتقاذفان المسؤولية المادية.
وذات مرة سافرت في رحلة عمل، عدت منها لأجد مفتاح شقتي لا يعمل، فقد قامت بتغيير قفل الباب، وتركت لي الحقيبة عند الجيران، سكنى هو حصيلة شقاء العمر، صرت مشردًا، طرقت كل باب يمكنني العبور منه لحل لغز الحياة المستحيلة دون جدوى، حاولت التطليق لاستحالة العشرة ولم يكن حينها بين بنود التفريق ما يسمح، بعد فترة فوجئت بدعوى نفقة، أخذت مسكني وأكثر من نصف راتبي، وأشد ما يقهرني أنها سلبتني سلامي ومالي حيا وسترثني ميتًا، لأنها لم تزل بعد زوجتي فوق الورق، ضاعت من عمري أجمل سنينه، ولم تزل خارطة أيامي مشوهة فماذا تفعلين لو كنت مكاني؟
حزينة قصة يوسف وكل يوسف، يريد حريته بينما تمنعه القوانين الغائبة، مؤجلة الصدور، «قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين»، والذي توسع مشروعه في أسباب الطلاق، ومن غير المعلوم هل جاء ضمنها بند استحالة العشرة من عدمها، وكان مدرجا في لائحة 38، لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس الصادرة في عام 1938.
واستحالة العشرة في الزواج لا تقتصر على الأمراض المعدية أو الإدمان، أو التحول عن العقيدة، لكنها تمتد لتشمل عوامل عديدة، ففي الزواج تتكشف لنا أشياء لا يمكن اكتشافها في مرحلة الخطوبة، بعضها يمكن التعامل معه والبعض الآخر يحول الحياة إلى حلبة مصارعة، مهزومة الطرفين، تستحيل العشرة بينهما ليس بسبب الطباع الحادة، وإنما لكونها تنتج مع مرور الزمن وفشل المحاولات انفصالا روحيا وعاطفيا بين الزوجين، يصبح البقاء معه مرادفًا للتآكل الداخلي والهلاك النفسي، ولا تستقيم معه مبادئ التضحية، فالتضحية اختيار وليست اضطرارا، والله خلقنا مخيرين ولسنا مسيرين وإلا على أي شىء سنُجازى؟.
لكن منذ مارس 2016 حينما تم الإعلان عن إعداد مشروع قانون جديد يريح آلاف المتعبين ويعيد الخراف الضالة لراعيها، ورغم إعلان الانتهاء منه في 2019 إلا أنه لم يصدر حتى الآن، الأمر الذي يعطل مستقبل آلاف الأسر.
تلك الأجواء لن تنتج إلا مزيدا من الفارين من جحيم الأسر المُفككة إلى الانفصال والخطية والتحول العقائدي أملا في الخلاص من شريك جانح عن شركة الزيجة المقدسة، فالانتحار أو الجنون أو الانحراف أو الموت قهرًا أو التحول بين الطوائف كانت سبلًا لا بديل عنها أمام المعذبين من المسيحيين الذين تسقط فوق رؤوسهم أسقف الطمأنينة في أسر فقدت السلام والحماية وأبسط عوامل استمرار الحياة الزوجية، بعد إلغاء العمل بلائحة 38 التي ظلت الكنيسة تعمل بها كمرجع للأحوال الشخصية منذ عام 1938، وحينما فقد الناس صبرهم، ظهرت عدة حركات تنادى بعودة اللائحة لينأى كل واحد بنفسه عن الانسلاخ الطائفي، ويتمكن المتضرر من الطلاق أمام المحاكم المدنية، أملا في حل مشكلاتهم العالقة في المحاكم؛ سنوات طويلة والآمال معلقة حتى وصلنا إلى اليوم وأصبح لدينا مشروع قانون متكامل، لكننا ما زلنا مُعلقين في حبل الانتظار.
نقلا عن المصرى اليوم