منى أبوسنة
مر أكثر من شهرين على خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى الخاص بتكليف رئيس الوزراء بتشكيل حكومة الجمهورية الجديدة والذى جاء فيه: «تطوير الثقافة والوعى الوطنى والخطاب الدينى المعتدل على النحو الذى يرسخ مفاهيم المواطنة والسلام المجتمعى». إن الهدف من التركيز على العبارة سالفة الذكر يكمن فى أنها تكثف الأولوية الأولى، التى تشكل الإشكالية الأساسية أمام عمل الوزارة الجديدة، حيث إن المغزى الكامن فى خطاب التكليف يشير إلى قضية التحدى الحضارى، الذى يواجه العالم الإسلامى برمته والمجتمع المصرى على وجه الخصوص.
ويتمثل التحدى الحضارى فى أن مجتمعًا معينًا تخلف عن مواكبة «مسار الحضارة» من حكم الأسطورة إلى حكم العقل فى عصر معين، فإذا أراد مجابهته، فعليه معرفة أسباب تخلفه ومعرفة كيفية مجاوزة هذا التخلف، وحيث إن المجتمعات بثقافاتها متباينة من حيث درجة تحضرها فإنه لابد لهذه الثقافات أن تدخل فى حوار يسهم فى الكشف عن أسباب التخلف وأسباب التقدم.
ونضرب مثالًا لما نقول بما حدث ويحدث فى العالم الإسلامى، فإذا قلنا عن هذا العالم إنه قد تخلف فهو إذن يواجه تحديًا حضاريًّا، أى يواجه مجتمعات ثقافاتها يغلب عليها الطابع العقلانى، وبالتالى فإنها ثقافات قادرة على التحكم فى البيئة الطبيعية، ومن ثَمَّ التحكم فى الآخرين.
السؤال إذن: لماذا تخلف العالم الإسلامى؟.
بيد أن هذا السؤال يعنى أن العالم الإسلامى لم يكن متخلفًا، وهو بالفعل لم يكن كذلك، إذ كان متقدمًا فى العصر العباسى، وهو الذى يسمى العصر الذهبى، إذ كان منفتحًا على ثقافة الآخر، وهى الثقافة اليونانية، فترجمها إلى العربية، وتمثلها بعملية إبداعية، فأنتج فلسفة وعلمًا وفنًّا.
وتأثر الآخر الأوروبى بهذه الثقافة الإسلامية، فترجمها وأنتج عصرى النهضة والتنوير، اللذين يمثلان الأساس الثقافى الذى أفضى إلى بزوغ الثورة الصناعية فى القرن التاسع عشر، والتى بدورها أفرزت الثورة العلمية والتكنولوجية فى القرن العشرين.
بيد أن العالم الإسلامى قد تخلف عن المشاركة فى هذه المسيرة، أى أنه لم يتمثل منتجات هذين العصرين، النهضة والتنوير، فأصبح محكومًا بدلًا من أن يكون متحكمًا. وعلينا الآن البحث عن أسباب عجز العالم الإسلامى عن هذا التمثل.
وبعد تشكيل حكومة جديدة بديلة عن الحكومة المستقيلة، أشير إلى بعض المقتطفات من خطاب التكليف، وهى على النحو الآتى: «وضع ملف بناء الإنسان المصرى على رأس أولويات الحكومة». وأنا هنا أركز على جزئية محددة من هذه الأولويات، وهى «تطوير الثقافة والوعى الوطنى»، وأطرحها فى إطار قضية أوسع وأشمل، وهى قضية التحدى الحضارى الذى يواجه العالم الإسلامى فى ظل ما تموج به الحضارة الإنسانية من صراعات وانقسامات توشك أن تهدد الحضارة الإنسانية بالفناء.
أقول ذلك على الرغم مما يجتاح العالم الآن من حروب وانقسامات تصل إلى حد العنف اللاإنسانى، بل الإبادة الجماعية، فأنا أعتبر تلك الظواهر مجرد نتوء فى مسار الحضارة الإنسانية. سوف يتم القضاء عليه وتجاوزه مع بزوغ النظام العالمى متعدد الأقطاب، الذى يستند إلى النزعة الإنسانية التى سوف تكون الأساس فى إنقاذ الحضارة الإنسانية من الفناء، فأنا أعتبر ذلك قانونًا حضاريًّا لا يحتمل الاستثناء. قد كان هذا القانون هو الذى أنقذ الحضارة من أزمات عديدة على مدى التاريخ الإنسانى.
وينبغى بعد ذلك إثارة سؤالين: السؤال الأول هو: كيف يمكن للعالم الإسلامى أن يلحق بركب المسار الحضارى العقلانى، وأن يسهم بندية كمشارك لا كمستهلك للمنتجات العلمية والتكنولوجية للحضارة فى بلورة النظام العالمى المستقبلى، الذى تتشكل ملامحه منذ النصف الثانى من القرن العشرين وحتى اليوم؟.
أما السؤال الثانى، وهو الأكثر أهمية وأولوية، ويرتبط بتاريخ المجتمع المصرى فى المرحلة القادمة فى إطار بناء الجمهورية الجديدة وتكليف الرئيس بتطوير ملفات تجديد الخطاب الدينى والثقافى بوجه خاص، هل ستضمن الحكومة الحالية توفير المناخ الصحى اللازم للمجتهدين فى تطوير الخطاب الدينى من داخل ومن خارج المؤسسة الدينية على وجه سواء، وإزاحة كل ما يكبل تلك الاجتهادات من قوانين مكفرة ومجرمة للاجتهاد فى مجال الفكر الدينى، وعلى رأسها قانون ازدراء الأديان، مما قد يعوقها عن القيام بالدور الذى كلفها به الرئيس؟.
أرجو أن تكون الحكومة الجديدة على وعى بتلك المعضلة وبمسؤوليتها بمراجعة وإيجاد حلول جذرية لها حتى تتمكن من تحقيق المهمة المنشودة على أكمل وجه. وهذا الوعى يشترط الإقرار بأن تأسيس الخطاب الدينى العقلانى وتجديد الفكر الثقافى المتنور يستلزم وجود ظاهرة التعددية فى الثقافة الإسلامية كشرط للتفاعل بين الثقافات من أجل الخروج من حالة التخلف والانغلاق الحالية. والقبول بالتعددية من شأنه أن يجعل دور العالم الإسلامى كتلة حضارية اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا فى بناء النظام العالمى الجديد، الذى يقوم على المشاركة مع باقى الكتل العالمية، التى تنتمى إلى ثقافات متعددة، فى منظومة واحدة تستند إلى منتجات العقلانية المتمثلة فى ثلاثية ثورة المعلومات ووحدة المعرفة وثورة الكمبيوتر.
وإذا سلمنا بأن العالم الإسلامى اليوم محكوم بالأصولية الدينية الإسلامية والمسيحية على حد سواء، وإذا كانت الأصولية تكفر العقلانية، التى تقوم على نسبية الحقيقة وتعددها، فكيف يمكن للعالم الإسلامى مجابهة التحدى الحضارى وهو مكبل بهذه الأصولية؟. أظن أن الجواب عن هذا السؤال مرهون بالنخبة المثقفة ورجال الدين المستنيرين.
وبهذه المناسبة أقترح الأخذ بنصيحة الفيلسوف الإسلامى المستنير ابن رشد، رائد علم التأويل المجازى، وهى تنص على ضرورة التمييز فى التأويل بين فريقين لكل منهما مستواه، يسميهما ابن رشد «الراسخون فى العلم»، ويعنى بهم الفقهاء والفلاسفة وعلماء الكلام من جهة، و«الجماهير» من جهة أخرى حتى لا يختلط الأمر على الجماهير التى تتلقى التأويل على المستوى الحسى فقط وليس على المستوى العقلى الذى يفكر ويتخاطب به الراسخون فى العلم. وهذه التفرقة ضرورية على الأقل مع بداية تأسيس فكر دينى جديد يقوم على مشروعية التأويل وليس التكفير.
أقول ذلك وكلى أمل وثقة فى الجهود التى يقوم بها الشيخ د. أسامة الأزهرى، وزير الأوقاف، والفقيه العالِم والمبدع فى تجديد الفكر الإسلامى، خاصة وهو له مؤلف مهم جدًّا يتناول أهمية وضرورة التأويل فى الفكر الدينى، بعنوان «مدخل إلى أصول التفسير»، حيث نادى بإنشاء ما يسمى هيرمنيوطيقا إسلامية لفهم النصوص، تكون نابعة ومستمدة من مناهج الفهم العريقة التى أسستها الأمة عبر تاريخها العلمى الطويل، وقد قام بشرح تلك الدعوة وذلك المفهوم فى كتابه.
والجدير بالذكر أن الهيرمنيوطيقا أو علم التاويل، الذى نشأ فى أوروبا ومهد للإصلاح الدينى، تمتد جذوره إلى نظرية التأويل عند ابن رشد فى القرن الثانى عشر. عندما تُرجمت مؤلفاته إلى اللغة اللاتينية فى القرن الثالث عشر تأسس عليها تيار الرشدية اللاتينية، الذى مهد لحركة الاصلاح الدينى فى القرن السادس عشر القائمة على مبدأ الفحص الحر للكتاب المقدس.
ثم امتد هذا التيار إلى العلوم الإنسانية عندما تأسست مدارس متعددة للهرمنيوطيقا، منها الكلاسيكية، والرومانسية، والحديثة، خاصة فى الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع. وحيث إن ابن رشد هو رائد الهرمنيوطيقا الإسلامية فأنا أرجو أن يتحمس د. أسامة الأزهرى لتأسيس تيار الرشدية العربية، ويكون هو رائده اليوم. كما أرجو أن ينضم إلى هذا التيار المثقفون الذين ينشدون الإسهام فى تجديد الفكر الإسلامى سواء من داخل المؤسسة الدينية أو من خارجها.
نقلا عن المصرى اليوم