حنان فكري
كلنا أخطأنا وأعوزنا مجد الله، كلنا انطلقنا من سماء القيم التي نعتنقها، وسقطنا في فخاخ ذلات اللسان، انتصرنا لحماسة اليقين وانهزمنا في الأحكام على الآخرين، لذلك لا يمكننا الحكم على د. ماهر صموئيل الواعظ الإنجيلي الشهير، والطبيب النفسي المعروف، الذي حاول توصيل رسالته القوية، عن ضرورة الاكتفاء بحب الله، محذرًا الناس من خطورة الاستغراق في الحب الرومانسي، باعتباره المصدر الوحيد للحب وتناسي الحب الالهي، في محاضرة تحت عنوان «الإنسان كائن عابد ضل الطريق».
فاستخدم كلمات أغنية للمطربة شيرين، يعود ظهورها لعام 2014، «أنا كلي ليك» من كلمات الشاعر أمير طعيمة، للتدليل على صدق فكرته. وجنوح الكلمات التي يجب أن تقال في الله عز وجل لتصف مشاعر إنسان نحو إنسان آخر.
لكن ابتعادنا عن إصدار الأحكام لا يعني التنحي عن مناقشة الموقف، فجنوح الكلمات جذب د. صموئيل لجموح الحماسة كاسرًا الحدود التي ما كان يجب تجاوزها، تتسرب قسوة الكلمات من بين حروفه، واصفا كلمات الأغنية بأنها «كفر ووثنية». مدللا على ذلك بأن شيرين ذاتها تعرضت للطلاق أكثر من مرة!! وهكذا تأخذ الحماسة بعض الوعاظ، وفي لحظات سريعة يتحول الواعظ من مُلهِم إلى «مكفراتي». يُقسم المجتمع إلى مُؤمنين وكفار، وينزلق نحو منحى يُعيد تشكيل الإيمان كأداة للحكم على الآخرين، بدلًا من أن يكون أداة للاستنارة. ويتحول الطبيب النفسي من العين الفاحصة التي تقدم مساحات التامل والتفكير وتمنح فرصة تحليل ما وراء السلوك، إلى حاكم وجلاد.
نوبة من الضحك هزتني، أسالت دموعي، وحاصرت أنفاسي، ضحك يسكنه البكاء، على شفاه تترنح، ما بين الابتسامات الساخرة والامتعاضات اليائسة، وأنا أردد «مافيش فايدة»، وأتساءل في نفسي، لماذا انتقى الواعظ الشهير المطربة شيرين وتجاهل كاتب الكلمات الشاعر أمير طعيمة؟ بالرغم من أن المطرب يؤدي الكلمات المكتوبة له فالأولى بالهجوم هو كاتب الكلمات.
لم أجد إجابة واضحة سوى أن شيرين تمثل هدفا سهلًا، ليس للواعظ ولكن لثقافة مجتمعنا الذي هو ابن من أبنائه، وسهولة الاستهداف تأتي من عاملين الأول أنها امرأة، وهو ما يعكس الصورة النمطية للمرأة والتي تختزلها في الكائن الضعيف التابع، الذي يحتاج التوجيه ودخول غرفة الإفاقة من غيبوبة الرومانسية، تلك الصورة النمطية كانت حاضرة بقوة في موقف العظة الانفعالية الانتقائية، والصورة النمطية للفنانات التي تغذي عليها المجتمع وتغلغت في كل تفاصيله حتى أصابت مثقفيه وقادة تنويره، أما العامل الثاني فهو انتشار أخبار عن حياتها الشخصية تخص تفسيرات مغلوطة تتضارب مع كلمات الأغنية- في وجهة نظر الواعظ- غافلا عن أن لكل إنسان قصة لا تضعه بالضرورة في خانة الاتهام، وما يثير التعجب أنه وهو الطبيب النفسي العالم بتعقيدات النفس الإنسانية، حَمَلها وزرًا ثقيلًا من اللوم، وبينما يسعى لتأكيد موقفه، حول العظة- في بعض منها- إلى صراع وجودي، مُحاصرًا شيرين بحدود ما يعتنقه من فكر وكأنه يقول للحاضرين «شفتوا اهي بعد ما كانت بتغني له كلي ملك ليك اتطلقت»، ولماذا «كأنه» فقد قالها بالفعل، متجاهلا تأثير قسوة الكلام على نفس تألمت بالقدر الذي يكفيها، حتى ظهرت يوما ما حليقة الرأس معلنة على الملأ آلامها، هذا فضلا عن أن المطربة والكاتب كليهما ينتميان لفكر وعقيدة مغايرة، وهو ما يجعل المثال في غير موضعه، ويزيد الأمر حساسية.
وما ذكره د. ماهر في اعتذاره قائلا: «عندما شرحت هذا إنما قدمته من قلب متألم لكثرة ما أرى من نساء ورجال يتم استغلالهم أسوأ استغلال، في علاقات بدأت رومانسية وانتهت سامة، حياتهم تتحطم، وإنسانيتهم تُهدر، بسبب هذه العلاقات لكنهم يستمرون فيها لأنهم يخشون العيش بدون معبود. وعلى العكس رأيت رجالًا ونساءً يهدمون عائلاتهم بالطلاق بدون داع، لمجرد عجز الشريك عن أن يكون إلها يملأ فراغ الحياة. وقد ركزت على الأغاني بالذات لأهميتها القصوى في تشكيل العقل الجمعي لشعب ما». ما هو إلا محطة أخرى من الأحكام على الحياة الخاصة لشيرين، كما أن الأغاني العاطفية لا تشكل العقل الجمعي للشعب ولكنها تلامس العواطف، وتعبر عن مشاعر قطاع من المجتمع وليس كل المجتمع، فالفن بكل أنواعه مرآة تعكس الآلام والأحلام، والهوية الثقافية الموجودة بالفعل، في محاولة لتسليط الضوء على ما هو كائن وللمتلقي تذوقه كما يريد، فالمجتمع ليس مجموعة من الأغبياء الذين يعيشون تحت وصاية المعروض عليهم. الناس لديها القدرة على الفرز، والله الساكن في كل نفس منحهم هذه القدرة.
أما عن كلمتى الكفر والوثنية اللتين اعتذر عنهما الواعظ، وأنا على ثقة أنهما مجرد ذلة لسان، لكونهما لا تنتميان لجوهر العقيدة المسيحية، لكن لا يمكن إغفال أن استخدامهما كوسيلة للتأكيد على صحة النصيحة، يبدو كما لو كان تحذيرا وليس وعظًا. وبالرغم من أن كلمة الكفر تم تفسيرها في مواقف عديدة باعتبارها عدم الإيمان بعقيدة الآخر، إلا أنه لا يمكن تمريرها، ويتبقى الوصف بالوثنية، وهو الأشد قسوة على الإطلاق، فالوثنية تُعتبر عقيدة مُعادية للتوحيد، وانحرافًا عن الإيمان بإله واحد، وربما يكون هذا هو الهدف من العظة حسب الوصف الوارد في اعتذار د. ماهر صموئيل، بأن الناس تقع في الحب الكارثي، أسيرة لمعبود- حسب وصفه- لكن يظل الوصف بالوثنية سقطة تفتيش النوايا، وكان الأولى تفسير تلك الحالة تفسيرا نفسيا ينتمي للتخصص الدقيق للواعظ، وعلى قدر فهمي المتواضع فإن شرح مفهوم الاعتمادية العاطفية التي تجعل الانسان أسيرا لعلاقة سامة يفي بالغرض، لو تم شرح واف لآثارها وكيف يمكن أن تؤدي الاعتمادية العاطفية إلى فقدان الهوية الذاتية والشعور بالاستسلام للآخرين، مما يجعل الفرد يشعر وكأنه «عبد» للاحتياجات والتوقعات العاطفية للشخص الآخر. وهو ما يؤكد نفس القصد الذي حاول د. ماهر الوصول إليه. لكن الحماسة تنسينا الموضوعية.
وأخيرًا.. للوعاظ كل الحق في التعبير عن آرائهم بشأن المحتوى الفني، خاصة إذا اعتبروه متعارضا مع القيم الدينية. لكن قسوة الانتقادات وانتقاء اصحاب الخبرات المؤلمة واستخدامهم أمثلة لدعم فكرة بعينها، يؤدي إلى نمو بيئة من التوتر بين أصحاب رسالتين ساميتين، هما الفن والقيم الروحية.
نقلا عن المصرى اليوم