فاطمة ناعوت
منذ العتبة الأولى للنصّ، يُلقى بك «محمد سلماوى»، الأديبُ الكبير، فى عمق «الفانتازيا الزمانية» بمجرد مطالعتك عنوان الرواية: «أوديب فى الطائرة»!، فكيف للملك «أوديب»، الذى خلقه خيالُ «سوفوكليس» فى القرن الرابع قبل الميلاد، أن يركب طائرة أنتجها خيالُ علماء الثورة الصناعية فصارت واقعًا فى القرن العشرين؟!، ولم يكتفِ خيالُ الأديب بإدغام القديم فى الحديث، ومزج ٢٤ قرنًا، وتسكين الخيال فى الواقع، بل ضفّر تلك «الفانتازيا الزمانية» المركّبة بـ«فانتازيا مكانية»؛ إذ استعار من بلاد الإغريق القديمة حيزًا مكانيًّا ليصير مسرحًا لأحداث رواية جرت أحداثُها على أرض «طِيبة» عاصمة مصر ومدينة صولجانها. هكذا «الفن» يُجيزُ للفنان رسم ما لا يخطر على بال. لهذا يقول «برنارد شو»: (الناسُ يرون ما هو موجود ويقولون «لماذا؟»، أما أنا فأحلم بما ليس موجودًا وأقول: «ولِمَ لا؟!»). الأديبُ يلعبُ بالزمان والمكان والشخوص ليخلق عالمًا لا حدود فيه بين الواقع والخيال.
فى روايته «أجنحة الفراشة»، الصادرة عام ٢٠١٠، استعار «محمد سلماوى» من العلم نظريةَ: «أثر الفراشة» لكى يتنبأ، من خلال بطلى الحدوتة: مصممة الأزياء «ضحى» الباحثة عن نفسها، و«أيمن» الباحث عن أمه، بأن ثورة وشيكة سوف تشتعل فى ميادين مصر. وفى روايته الجديدة «أوديب فى الطائرة»، يعالجُ الأزمة النفسية التى تصيبُ الإنسانَ حين يرتكبُ أعظم الخطايا، دون أن يدرى، فيُدينُه القانونُ والشرائعُ والمجتمع، بينما هو يقفُ على أرض راسخة، واثقًا من براءته، مستنكرًا ما يُرمى به من اتهامات؛ لأنه لم يرتكب الخطايا بإرادته ولا بعلمه. هكذا كانت شخصية «أوديب»، الذى تنبأ العرافُ قبل ميلاده بأنه سوف يقتل أباه ويتزوّج أمه، فيتخلّص منه الأبُ بمجرد ميلاده، ويُلقى به مقيّدَ القدمين بين الجبال، ليلتقطه أحدُ الرُّعاة، ويُطلق عليه اسم «أوديب»، أى «متورّم القدمين»، ويتبناه، ليكبرَ الطفلُ ويصير شابًّا فتيًّا، يصادفُ أباه الحقيقى «لايوس» على مدخل المدينة، ويتقاتلان، فيقتله، دفاعًا عن النفس، دون أن يدرى أنه أبوه، ثم يهزم الوحشَ الرابض على باب المدينة بحلّ اللغز العصىّ، فيحمله أهلُ المدينة على الأعناق بوصفه البطلَ المخلّص، ويرسمونه ملكًا، ويزوجونه مليكتهم «جوكاستا»، أرملة «لايوس»، دون أن يدرى أنها أمّه. هكذا تكونت مأساةُ «أوديب»، المرتكب أبشع الخطايا دون علمٍ ولا إرادة!، فهل هو فى عُرف الأخلاق مجرم أم بطل، آثمً أم ضحية، مُخيَّر مختار لخطاياه، أم مُسيَّر أعمى بحكم نبوءة الأقدار؟!. لغزٌ لم تحلّه الرواياتُ والمسرحياتُ ولا الفلسفاتُ، حتى صار أمثولةً للتراجيديا الملغزة، وإحدى العُقد النموذجية فى علم النفس. ولكى تكتملَ المأساةُ وتغلق قوسَها الدامى، تقتلُ «جوكاستا» نفسَها حين تعلم أنها تزوجت ابنها، فينتزع «أوديب» دبوسين من ملابسها، ويفقأ عينيه عقابًا لنفسه لهول ما ارتكب من آثام. هكذا كانت الأسطورة التى تناولها قدامى المسرحيين والشعراء بداية من «سوفوكليس» وانتهاء بـ«توفيق الحكيم». لكن «أوديب» الملك فى رواية «سلماوى» يرى نفسَه بريئًا وبطلًا أنقذ بلاده من بَغى «أسبرطة»؛ فيرفضُ مغادرةَ الطائرة الحربية التى أقلّته من قصره إلى قاعة المحاكمة، ثم يرفضُ النزول من الطائرة التى أقلّته من المحكمة إلى السجن. وبين المشهدين برهةٌ زمنية قضاها فى خيمة مشددة الحراسة. ومن أجمل الصور الإبداعية الموجعة فى الرواية حين يتشوّق «أوديب» لمشاهدة السماء، التى طالما حلّق فى رحابها طيارًا مغوارًا، فينظر إلى الأعلى ليجد شقًّا صغيرًا فى سقيفة الخيمة، تُطلُّ منه بقعةٌ من السماء، فراح يتأمل تلك اللوحة التشكيلية المعكوسة، فهى لم تكن رسمًا بالزيت على توال كانفس، بل كانت مزقًا فى الكانفاه تظهر من خلاله لوحةٌ رسمها اللهُ بالغيم على صفحة السماء. يرفعُ يديه ليُمسك باللوحة، فتختفى وراء كفّه المشهرة.
سلّط «سلماوى» الضوءَ على الأدران المجتمعية المزمنة، مثل المحسوبية، الطائفية، الأحزاب الهشّة، البطالة، الجهل، الفقر، وغيرها من الكوارث التى لا تقلُّ بؤسًا عن «الطاعون»، الذى ضرب مدينة «أوديب» بعد ارتكابه الخطايا العظمى، واعيًا كان أو غير واعٍ، ولا منجاةَ منها إلا بتشييد مجتمع مدنى مثقف لا تحكمه الخرافة.
فى جلسة ثرية من جلسات «نادى الكتاب» العريق، دعانا المهندس «صلاح دياب» وعقيلتُه الجميلة، على شرف رواية «أوديب فى الطائرة»، الصادرة حديثًا عن دار «الكرمة»، بحضور كاتبها الأديب «محمد سلماوى» ونخبة من المثقفين والمبدعين للمناقشة والتحليل. قدمت الدكتورة «أمانى فؤاد»، أستاذة النقد الأدبى الحديث، ورقة بحثية ثرية عن الرواية، كما قدّم كلٌّ من الحضور مداخلة قيّمة يشرح خلالها كيف قرأ باطن النص وظاهره، وكيف حلّل الرموز الخبيئة بين السطور. جميلٌ أن تحتشد العقولُ فى جلسة «عصف ذهنى» ليرسم كلٌّ رؤاه الخاصة وتشريحه الفكرى لعمل واحد يراه كلٌّ عبر منظوره الشخصى. وجميلٌ هو الإبداع الذى يخلق العوالمَ الموازية.
نقلا عن المصرى اليوم