مؤسسة المصريين الثقافية - الحوار الإنساني
اللقاء الشهري لمبادرة :
" محبة وكلمة سواء "
قراءة في الموروث و الأساطير
ماهر عزيز
شرفت مساء الخميس 19 سبتمبر 2024 بحضور ملتقي ثقافي راق ، بدعوة كريمة من المهندس الكبير موريس بك حنا ، وسط نخبة رفيعة المستوي من العقول الحرة المثقفة المفكرة المهمومة بمستقبل الوطن وتقدمه ، وبقضايا الإنسان وسعادته .. التي جمعت في جوقة فريدة المهندس والطبيب والقانوني والمحاسب والفنان إلي جانب الأستاذ الجامعي الكبير في التاريخ ، و عالمة الاجتماع الأستاذة الجامعية والرائدة الاجتماعية القديرة .
بدأ البرنامج المعد للملتقي الثقافي بتقديم ضاف من الدكتور سمير فاضل أستاذ التاريخ بالجامعات المصرية ومدير عام مؤسسة المصريين الثقافية ، الذي قدم نيافة الأنبا مكسيموس الأول ، رئيس مجلس أمناء المؤسسة علي شاشة كبيرة تنقل من أمريكا - حيث يقيم - صورته وصوته كأنه يجلس علي المنصة أمامنا ، بل هو بالفعل جلس علي المنصة أمامنا يحدثنا ونحن معه ، ثم انتهي البرنامج بتعقيبات عميقة ورؤي ثاقبة من الأعضاء الحضور .
تحدث نيافة الأنبا مكسيموس الأول حديثا مركزا ودقيقا عن العلاقة بين العقل والإيمان ، والتحدي القائم في توظيفهما الفكري والاجتماعي علي مستوي الأفراد والدول ، واهتم بإلقاء الضوء علي حضور العقل في الإيمان ، والسعي الدؤوب للإنسان لعقلنة ما يؤمن به ، وموقف العقل من وقائع إيمانية تري كالأساطير والغيبيات ، التي قد يعاندها ولا يقبلها ، أو لا يفكر فيها ويقبلها باعتبارها ثوابت مقدسة لا يرقي إليها فكر بشر ، ويتعين علي العقل أن ينتحي جانبا حيالها تاركا الساحة للإيمان .
وانتهي نيافته بأن تحدي العقل والإيمان يكمن حله الملائم في " التأويل " ، الذي بمقدوره وحده ان يستخرج من النص ما لا يرفضه العقل ويأباه .
ثم افتتح الأستاذ الدكتور سمير فاضل باب التعقيبات و المداخلات فأدلي الجمع الكريم بمداخلات حاذقة .
ولقد قدم الحاضرون بعض الرؤى والتساؤلات المهمة ، التي قد ينطوي عليها التقابل الأبدي بين العقل والإيمان ، واستعرضت بدوري جزءا من رؤيتي فيما يختص بالقضايا المثارة علي النحو التالي :
1 - العلم و الإيمان :
أري أن العلم والإيمان دائرتان مختلفتان متماستان لكنهما غير متقاطعتين .
ومن الخطل والخلط أن نقول عن الإيمان بالعلم ، أو نقول عن العلم بالايمان .
والكتب المقدسة لدي كل دين ليست كتبا للعلم بل كتبا للإيمان .
والعلم وحقائقه وفروضه ونظرياته هو عقلنة للعالم المادي والسيطرة عليه لصالح الحياة ، والوجود البشري ، والتطور التكنولوجي ، ورفاهية العيش للإنسان .
صحيح أن العلم يقدم مادة يقينية للوثوق ، ويدعم الإيمان بالحقائق المادية التي يقوم علي الكشف عنها ، واستجلاء قوانينها ، وتطويعها لصالح البشر .. لكنه يبقي علما وحده مهما قدم من حقائق يقينية للإيمان .
علي أن العلم في حد ذاته هو أحد التجليات الكبري للعقل ، والموضوع أشمل وأكبر من حيث هو عن " العقل والإيمان " ، ولذا يحسن بنا أن نحفظ للعلم دائرته ، وللإيمان دائرته ، دون مزج أو تركيب أو اختلاط .
كثيرون يحاولون أن يؤكدوا ألوهية كتابهم المقدس وصدقه ، فيعمدون للبحث عن الحقائق العلمية في النص الديني ، كأن يقول المسيحي أن بكتابه المقدس منذ حوالي ثلاثة الآف عام جاء عن الله : " الواقف علي كرة الأرض " ، ثم أثبت العلم بدءا من جاليليو بعد ذلك بحوالي ألفين وخمسمائة عام أن الأرض كروية ، فيؤكد لذلك أن الكتاب المقدس - الذي ساق فيه الروح القدس الأنبياء والرجال الأتقياء ليكتبوا أسفاره - هو الرسالة السماوية ؛ أو يأتي الدكتور زغلول النجار فيتحدث عن أكثر من عشرين حقيقة علمية في باب الإعجاز العلمي للقرآن ، فيؤكد للجميع أنه منزل من عند الله ....
هؤلاء يضعون النص الديني في مأزق ، إذ يبقي قائما احتمال أن يخالف العلم في كشوفه المستمرة والمستجدة ما أثبته قبلا - ما حدث مرارا وسيظل يحدث - وتم قياس النص الديني عليه بصحته ، فيختلف مع ما ثبت من قبل متفقا مع العلم . والأجدر بهم أن يحتفظوا للدين بدائرته وللعلم بدائرته .
وتوجد نصوص دينية يراها العلمانيون محض أساطير ، لا يمكن أن تؤكد علما لأنها تخاصم العقل ، مثل قصة الخلق ، وواقعة شق البحر الأحمر بعصا موسي لعبور بني اسرائيل إلي سيناء في قصة الخروج من مصر ، فيرد المتدينون بقولهم : " إن هي إلا وحيا إلهيا وليست أساطير ، بل موضوعا للإيمان دائرته الإيمان التي لا علاقة لها بدائرة العلم .
2 - عقلنة الايمان :
أدرت مداخلتي بأننا نؤمن بما نعقله ، ولا نؤمن بما لا نعقله ..
غير أن الإيمان "بحسب تعريف القديس بولس الرسول" هو : " الثقة بما يرجي والإيقان بأمور لا تري " . أي الإيمان في جوهره هو الثقة بما لا نعرفه ولا نراه ولكننا نوقن بوجوده ، وإلا تنتزع منه صفة الإيمان . لهذا كان يتقد الشوق دائما لعقلنة الإيمان حتي ينتقل موضوعه من دائرة التصديق الغيبي إلي دائرة التصديق المبرهن .
فلابد لعقولنا من تحليل تثق فيه ، أو تفسير منطقي تقبله ، ولذلك نستعين غالبا بعملية عقلية جوهرية نطلق عليها " عقلنة الايمان " .
فلا نستطيع أمام مقولات مقدسة - ليست قليلة - ان نمنح الثقة الإدراكية-الإيمانية الكاملة لها بينما هي تبدو لنا غير منطقية أو محض أساطير .
وعلي سبيل المثال يقبل الفكر المسيحي علي نحو جازم الإيمان " بإله واحد مثلث الأقانيم " ، ذلك أن هذا الايمان يتعقلن علي نحو أن الله الواحد الأحد الذي لا شريك له موجود بذاته ( الآب ) ، ناطق بكلمته ( الإبن ) ، حي بروحه ( الروح القدس ) ، وهؤلاء الثلاثة ليسوا ثلاثة بل واحدا أحدا لا شريك له ؛ ولهذا "الواحد في ثالوث" أو "الثالوث في واحد" متشابهات عدة ، كالشمس الواحدة : لها جرم الشمس ، ونورها ، وحرارتها ، وهؤلاء الثلاثة هم شمس واحدة وليسوا ثلاثة شموس ؛ وكالإنسان الواحد : كيان وعقل وروح وهؤلاء الثلاثة واحد هو الإنسان .
وعلي قدر المسافة الشاسعة بين الحقيقة في النص المقدس ومحاولات التقريب العقلي بالمشابهة ، تبقي المشابهة محاولة بدائية لعقلنة الايمان .
أيضا يقبل الفكر المسيحي بيسر معجزة تجسد الإله ، فكيف لله المالئ الكل بلاهوته أن يترك الكل ليحصر ذاته - جل جلاله - في جسم وحيز ضيق هو حشا العذراء ، لكنهم يشرحون هذا الإيمان بعقلنته كذلك خلال أمثلة ملموسة نعيشها في كل لحظة ، ربما أقربها الأشعة الكهرومغناطيسية التي تملأ الفضاء المحيط ، لكنها تنقل الإرسال إلي أجهزة التليفزيون في الوقت ذاته ، فهي تملأ الكون المحيط ، لكنها تتجسد في الوقت ذاته صوتا وصورة في أجهزة التليفزيون ، وتظل في الوقت ذاته تملأ الكون المحيط كله .. لذلك فالله مالئ الكل لا يعسر عليه أن يتجسد بينما يبقي مالئا الكون في الوقت ذاته ، وعملية العقلنة هذه لحقيقة إيمانية يصعب قبولها المنطقي ، ربما يقربها العقل - مع الفارق الشاسع في التشبيه - بمثال الإرسال التليفزيوني للأشعة الكهرومغناطيسية ، أو الإرسال الفضائي المالئ جو الأرض بالأشعة ذاتها ، الذي يتجسد في الأجهزة المسموعة والمرئية صوتا وصورة ، ويبقي مالئا الفضاء الكوني العريض في الوقت ذاته .
3 - بماذا نؤمن ؟ وماذا نعقل ؟
واحدة من المعضلات الكبري في محاججة " العقل والإيمان " تتلبس بالموضوع : فبأي من السجل الديني يقبل العقل فيؤمن ؟
لأنه في كل دين يوجد الكتاب الديني المقدس ، كما توجد أيضا تعليقات وهوامش وتراكمات تفاسير ورؤي وكتابات الأولين علي المتن ، أو التراث المنقول شفاها حتي جاء من سجله فنسب رأسا للرسول أو للمبعوث ، وهو ما اصطلح علي تسميته " التلمود " في اليهودية ، و " التقليد " في المسيحية ، و " السنة " في الإسلام .
فأيهما أسبق للإيمان والاعتقاد : العهد القديم أم التلمود ؟ الإنجيل أم التقليد ؟ القرآن أم السنة ؟
تتعالي أصوات زاعقة في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بأن التقليد أسبق من الإنجيل ، وأن الإيمان بالتقليد يغني عن الإنجيل ، لأن أقوال الآباء الإكليروس الموثوق بهم استوعبت الإنجيل وتحل وحدها كمصدر للدين ؛ كذلك أعلن فضيلة شيخ الأزهر - أعرق وأكبر جامع وجامعة إسلامية في العالم - في مؤتمر منقول بكل وسائل الإعلام أن مصادر الدين الإسلامي وعماده 75% السنة/التراث ، و 25% القرآن ؟
فبماذا نؤمن ؟
إذا كان كتاب الدين الرئيسي ( الذي يوقن الإيمان أنه الموحي به أو المنزل ) يحوي أحداثا ووقائع وأقوالا وخوارق وقصص كالأساطير ، مثال شق البحر الأحمر بالعصا ، وضرب الصخرة بالعصا فتنبع ماء ، وعمود نار يتقدم القوم في الليل ، وتجسد الإله ، وإبصار المولود أعمي ، وإشباع خمسة آلاف شخص بخمس خبزات وسمكتين ، والإسراء والمعراج ، إلي آخر ما في الكتب الدينية من خوارق ؛
أقول إذا كان كتاب الدين الرئيسي - المقدس - يحوي أحداثا وخوارق كالأساطير ، لا يقبلها المنطق والعقل ، فإن التقليد أو التراث حافل بالأكثر بما لا يقبله العقل أضعافا مضاعفة . فعلي سبيل المثال حوالي 50% علي الأقل من قصص السنكسار القبطي ( كتاب تاريخ الأحداث اليومية ) مؤلفة أو مختلقة ، لا يقبلها عقل ؛ ومن جهة أخري ألغي الأمير محمد بن سلمان في السعودية أحاديث الآحاد العشرة آلاف بجرأة غير مسبوقة لاعتقاده في ضعفها وعدم وثوقيتها ، بل هنالك نقد يدور الآن حول أحاديث كثيرة لدي البخاري وابن تيمية ومسلم والطبري والشافعي وغيرهم ، لا يقبلها العقل الإسلامي الناقد ، حتي أن الأمير محمد ابن سلمان عاد مرة أخري وألغي بشجاعة منقطعة النظير الدروس الدينية في المساجد عدا خطبة الجمعة ، لأنه يري أنها تربي الإرهاب ، أي أن الأمير المقدام لا يمكنه أن يؤمن بتراث يحرض علي الإرهاب ، ومن المستحيل أن يعقل تراثا يربي الإرهابيين وينميهم وينشرهم .
وأمام مصادر الإيمان المعتمدة لدينا علي هذا النحو ، يحاصر الإيمان بالعقل حصارا قاسيا في كل ما لا يعقله العقل من الفكر الديني ، فإما أن يؤمن الفرد بكل منظومة الفكر الديني ( كتابا مقدسا وتقليدا أو تراثا ) إيمانا مطلقا دون إعمال للعقل ، مقتفيا أثر " لا تسألوا عن أشياء تبد لكم تسوءكم " ، و " ابن الطاعة تحل عليه البركة " ، " والإيمان هو أن تثق بما لا تراه ولا تعرفه " ، وإما أن لا يقبل من منظومة الفكر الديني إلا ما يعقله العقل ويجد له أساسا منطقيا مقبولا ، أو أن يفارق بين الكتاب الديني المقدس ( الموحي به ) من ناحية ، فيؤمن فقط بما يبرهنه العقل منه ، وبين التراث الديني الذي تراكم من مدخلات بشرية بواسطة رجال الدين علي طول التاريخ من ناحية أخري ، فلا يؤمن منه إلا بما اتفق تماما مع المقولات الكتابية المقدسة المقبولة منطقيا والمبرهنة عقليا .
4 - التأويل
طرح نيافة الأنبا مكسيموس الأول في نهاية محاضرته القيمة "التأويل" كحل مناسب للمعضلة القائمة بين العقل والايمان ، فما لا يقبله العقل من النص المقدس يمكنه بعملية التأويل عقلنته ، ومن ثم قبوله فكريا ومنطقيا وإيمانيا بالطبع .
لكن الواقع والتاريخ يدلانا بأن التأويل لم يكن مقبولا في كل الأحوال والأزمنة كمدخل للإيمان . وابن رشد - كمثال - اضطهدوه بشدة ، وقاوموه مقاومة خطرة ، لمجرد أنه قال بالتأويل لما يبدو للعقل غير منطقي فيبلغ به الإيمان ، وقال بأن طرح التأويل كعملية عقلية يمكنه أن يعقلن مالا يعقل فيحفظ الإيمان به .
كذلك فالأجيال الجديدة من الشباب المتعلم تعليما عصريا ، أجيال الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي والإعلام المفتوح والوسائل المتعددة للتواصل الاجتماعي والتدفق المعلوماتي الهائل ، وأيضا الكثيرون من جيل الكبار المثقفين الواعين ، الذين صاروا يثيرون بشدة صنوفا متعددة من الاعتراض والتشكيك في النص المقدس ، مستندين إلي الرصيد الضخم للنقد الكتابي علي أيدي سبينوزا وغيره ، أو مستندين إلى الأطروحات العقلانية لنصر حامد أبو زيد وسيد القمني وإسلام بحيري وإبراهيم عيسي ويوسف زيدان وغيرهم ، يرفضون التأويل ، متهمين إياه بأنه لا يعدو أن يكون عملية تحايل والتفاف صريح علي النصوص المقدسة الغيبية أو الأسطورية ، فهي إما أن تكون موضوعا مباشرا للإيمان بما هي عليه هكذا من غيبية أو أسطورية ، أو لا تكون أبدا .
الحق إن المناقشة العميقة للقضايا الحرجة دائما ما تكون غنية بالفكر النقدي ، لكنها في نهاية المطاف تضيء علي الفكر أعطافه بفهم أعمق .