القمص يوحنا نصيف
    يذكر القدّيس لوقا في إنجيله، أنّ الرب يسوع المسيح عندما اقترب من أريحا شفى أعمى كان جالسًا يستعطي على الطريق (لو18: 35-43). وللقدّيس كيرلّس الكبير تعليق جميل على هذه المعجزة، أقتطف منه في هذا المقال بعض الفقرات:

    + المسيح.. صنع آيات.. بسلطان إلهي، لأنّه كان إلهًا وهو في الهيئة مثلنا.

    + صرخ إنسان أعمى وقال: يا ابن داود ارحمني. فلنفحص تعبير ذلك الإنسان الذي فقد بصره..

    + بأي صِفة يوجِّه الأعمى صلاته للمسيح؟ هل كما إلى مجرّد إنسان.. ألَم يكُن واجِبًا أن يَفهم الأعمى أنّ استعادة البصر لا يمكن أن تتم بوسائط بشريّة، بل تحتاج على العكس إلى قوّة إلهيّة، وسُلطان لا يمتلكه إلاّ الله وحده؟ لأنّه ليس شيءٌ مَهْمَا كان غيرَ ممكن لدى الله. لذلك فإنّه تَقَدَّم إليه كما إلى الله الكلِّيّ القدرة. لكن كيف يدعوه ابن داود؟

    + حيثُ إنّ الأعمى تَرَبَّى في الديانة اليهوديّة.. فلم تَغِبْ عن معرفته بالطبع النبوّات الموجودة في الناموس والأنبياء القدّيسين بخصوص المسيح. فقد سمعهم يُنشِدون من كتاب المزامير تلك العبارة: "أقسمَ الربُّ لداود حقًّا ولا يخلِف، لأجعلَنّ من ثمرة بطنِكَ على كرسيك" (مز131: 11 سبعينيّة)؛ وعرف أيضًا أنّ النبيّ الطوباوي إشَعياء قال: "يخرج قضيب من جِذع يَسَّى، وينبت غصن من أصوله" (إش1: 11)، وأيضًا: "هوذا العذراء تحبَل وتلد ابنًا، ويَدعون اسمه عِمّانوئيل" (إش7: 14).

    + لذلك فالأعمى كإنسانٍ آمَن في الحال أنّ الكلمة وهو الله، هو الذي قبل بإرادته أن يولَد بالجسد من العذراء القدّيسة، فاقترب منه على أنّه الله، وقال: "يا ابن داود ارحمني". لأنّ المسيح شهد بأنّ هذا هو تفكير الأعمى عندما قدَّمَ توسُّله، بقوله له: "إيمانك قد شفاك".

    + لم يستسلم، ولم يتوقَّف عن صراخه، بل أبكَمَ جهلَ أولئك الذين كانوا ينتهرونه ليسكت. لذلك -فعَن صوابٍ- أكرمَه المسيح، إذ دعاه وأمرَهُ أن يقترب منه.. الإيمان يضعنا نحن أيضًا في حضرة المسيح، وهكذا يُدخِلنا إلى الله.

    + حينما اُحضِرَ الأعمى إليه، سأله قائلاً: "ماذا تريد أن أفعل بك؟" فهل كان المُخَلِّص يَجهَل ماذا يريد الرجل؟

    + سأله المسيح عن قصد، لكيما يتعلَّم أولئك الذين كانوا واقفين حوله، والمصاحبين له، أنّه لم يكُن يطلب مالاً، بل بالحريّ لأنّه يعتبره إلهًا، فإنّه سأله عملاً إلهيًّا، عملاً مناسِبًا للطبيعة التي تفوق الكلّ.

    + كانت الكلمات التي قالها المسيح بمثابة توبيخ لليهود لعدم إيمانهم، لأنّه بسلطانٍ فائق قال: "أبصِرْ". مُدهِشٌ هو هذا التعبير! وهو بالحقّ جديرٌ بالله، ويفوق كلّ حدود طبيعة البشر! أيٌّ من الأنبياء القدّيسين تكلّم بمثل هذا؟ أو استَخدَمَ كلماتٍ بمثل هذا السلطان العظيم؟

    + لاحظوا أنّ المسيح لم يطلُب مِن آخَر القوّة على استعادة البصر، لذلك الذي كان محرومًا من النظر؛ ولا هو أجرى المعجزة الإلهيّة بفِعل الصلاة إلى الله؛ بل نَسَبَها بالحريّ إلى قوّته الذاتيّة؛ وبإرادته القادرة على كلّ شيء صَنَعَ ما أرادَهُ، إذ قال له: "أبصِرْ"، وكان الأمرُ بالإبصار نورًا لِمَن كان أعمى، لأنّه كان أمرًا مِن ذاك الذي هو النور الحقيقي.

    + الآن، وقد تخلَّصَ من عَمَاه، فهل أهمل واجب حُبّه للمسيح؟ بالتأكيد لا، إذ يقول (النَّصّ) إنّه "تبعه" وقَدّمَ المجد اللائق بالله، لذلك فإنّه تخَلَّصَ من عمى مزدوج، إذ أفلَتَ ليس فقط من عَمَى الجسد، بل أيضًا من عَمَى الذهن والقلب، لأنّه ما كان ليمجّده كإله لو لم يكُن قد اقتنى البصر الروحي. علاوة على ذلك فقد صار واسِطة لأولئك الآخرين أن يعطوا للمسيح المجد أيضًا، إذ يقول (النصّ): وجميع الشعب سبّحوا الله.

 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 126) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف