أحمد الخميسي
أحيانا يترك الضيف العجول وراءه سيجارة متوهجة عند حافة مطفأة، أحيانا ينسى الراحلون شعورا في غور النفس ولا يعودون لإطفائه. في التاسعة من عمري كنت صغيرا في عالم عجوز، جديدا في دنيا قديمة. وكنت نحيفا بسروال قصير وقميص خفيف حين أسندت رأسي على ذراع أمي ونحن جالسين متلاصقين على دكة خشبية بغرفة مأمور السجن. كان الطريق الطويل والانتظار قد أرهقاني عندما دخل علينا والدي من الباب المقابل لنا. كانت يده اليمني مقيدة بحديد ليد الحارس اليسرى، لكنه ما أن رآنا حتى تهلل وجه، ثم ضحك بفرحة من حلق بوثبة واحدة في سماء عالية. رفع معصمه ومعصم الحارس المقيدين لأعلى في الهواء يقول لى: "لقد سجنت هذا الرجل لأنه شقي". وتطلع الى الشاويش بجدية سائلا إياه: "أليس كذلك يا شاويش؟". أجابه الرجل الطيب: "مضبوط يا بك". وسألني وهو يزحزحني ليجلس قربي: "شفت؟". كنت صغيرا جدا ولكني كنت أعلم أنه محبوس، مع ذلك أحنيت له رأسي بالإيجاب قاصدا أنني صدقته، فابتسم أنه أشاع طمأنينة في نفسي، وابتسمت أنني أرحته. وكنت محبوسا فيما بعد، وكان طليقا. زارني وجلسنا في غرفة مأمور آخر، بسجن آخر. هذه المرة لم تسعفه حيل الكبار الأولى ولم تسعفني براءة السنوات الأولى. راح يتطلع فيما حوله بقلق مفتشا في الغرفة المقبضة عن ريشة من طائر البهجة، ثم وكأنما عثر عليها أخرج كيسا كبيرا دفع به تحت أنف المأمور وهو يقول:"وضعتُ هنا كل الممنوعات معا الشاي والبن والورق والأقلام لتسمح بمرورها كلها دفعة واحدة". ودارى المأمور ضحكته بيده. فابتسم وضمني بعينيه يسألني دون كلام: "شفت؟".
مرة ثالثة قدر لنا أن نكون معا وأن نرحل في السر من القاهرة إلى الإسكندرية، لنغادر إلى بيروت على ظهر باخرة، ولم يكن معنا مليم واحد. وكان البوفيه مفتوحا على سطح الباخرة طيلة اليوم ونحن جالسين أمامه في هواء البحر نتطلع صوبه ونشتهي قدح شاي كاليتامى. وعندما حل الغروب ضاقت فسحة الأمل وسألت نفسي: "ألن نجد حلا؟". ولم يحرك ساكنا حتى التاسعة مساء عندما أغلق البوفيه أبوابه وتلون الجو من ليل مبكر حولنا فوجدته ينتفض واقفا نافخا: "الحمد لله الآن سنأكل ونشرب كل ما نشتهي". ولم أفهم إلا بعد أن اتجه إلى قبطان الباخرة يحتج على إغلاق البوفيه مبكرا! وتعرف إليه القبطان ففاض بالترحاب به وأقام لنا وليمة حافلة بمختلف الأطعمة والمشروبات اللذيذة. وحينما غادرنا غرفة القبطان كان الليل سارحا في خواطره. ووقفنا معا تحت ضوء قمر واضح على سطح الباخرة المتأرجح، وموج لا نراه يرشنا من تحت السور برذاذ خفيف. تطلع حوله يستوثق أننا وحدنا، ثم راح يكتم ضحكاته المتدافعة وهو ينحني على هامسا:
"شبعت؟".
عندما غادرني للمرة الأخيرة، أخذت أتردد عليه في محبسه الأبدي، وكان يأتيني من حين لآخر في حبسي المؤقت، وكنت حين نلتقي أحكي له بعضا مما يطرأ على حياتي من حوادث وطرائف، أما هو فكان يتألم لأنه كان يضطر للاكتفاء برواية نتف من أحداث قديمة، وكنت أقطع له بأن حكاياته ممتعة مهما تكررت، فأراه يسدد نحوي نظرة شك وتعب. ومع ذلك كنا نحاول بإخلاص أن نحمي في كل مرة ما وعته الذاكرة من رذاذ الوجود الوهم. وكان إذا أحس حرارة المحاولة من جانبي يبتسم بأسى مجتهدا أن يحتفظ بعينيه مفتوحتين، ثم ما يلبث أن ينعس، وصوتي يتحدر إليه بالحكايات رتيبا أليفاً، أقص عليه ما استجد من أحداث في الحي، والشجارات التي وقعت، وما قالته عمتي عن بناتها، وحكاية عم زهران في حدائق القبة حين هام بهدى التي أرخت ضفيرتين غليظتين وشرعت نهديها وفتحت في الدنيا عينيها الواسعتين.
أتركه ينعس قليلا، وأعود إليه.