القمص يوحنا نصيف
يفتخر الإنسان بما يُحِبُّ، أو بما هو مصدر إلهام له، أو بما هو مصدر قوّة له.. وأيضًا يفتخر الإنسان بما يمنحه كرامة أو مكاسب كبيرة، كما قد يفتخر بمواهبه وإنجازاته..
كان اليهود يفتخرون بأنّهم أولاد إبراهيم رجل الله، وبأنّهم تلاميذ موسى العظيم، وبأنّ لديهم وصايا إلهيّة وهيكلاً فخمًا.. على الرغم أنّهم لم يكونوا يعيشون على مثال إيمان إبراهيم أو أمانة موسى، وكانوا يفهمون الوصايا الإلهيّة بطريقة حرفيّة مَقِيتة بعيدة تمامًا عن جوهرها، بل لقد حوّلوا هيكلهم الفخم من بيت عبادة روحيّة إلى سوق تجاري للمكاسب المادّيّة!
كان الأمم أيضًا يفتخرون بآلهتهم المختلفة، وبتماثيلهم الضخمة الذهبيّة، وبمبانيهم الشامخة، وبتراثهم وإنجازاتهم وأبطالهم..
أمّا المسيحيّون فمِن العجب أنّهم يفتخرون، ليس فقط بإلههم القوي المُحِبّ، بل أيضًا بصليبه الذي كان وسيلة عذابه وموته.. فما سِرّ هذا؟ ولماذا يفتخرون بما يبدو ضَعْفًا ومَهَانةً، أو بما قد يعتبره البعض مجرّد وسيلة للإعدام؟!
الحقيقة أنّ مفهوم علامة الصليب هو أبعد وأعظم بكثير من مجرّد كونه أداة عذاب وموت، فهو المذبح الذي قُدِّمَت عليه أعظم ذبيحة عرفتها البشريّة، والسلّم الذي ربط الأرض بالسماء وأمَّنَ لنا الطريق إلى الأقداس العُليا.
يفتخر المسيحيّون بالصليب لثلاثة أسباب على الأقل:
أوّلاً: الصليب هو أعظم علامة للحُبّ الإلهي تجاهنا نحن البشر الضعفاء.. فقد كشف الصليب عن قيمتنا العُظمى في عينيّ الله؛ إذ ارتضى أن يبذل نفسه بالصليب، ويُصعِد ذاتَه ذبيحةً عليه من أجل خلاصِنا. لقد ذُبِحَ واشترانا، واقتنانا بدمه، وستظلّ أحضانه المفتوحة على الصليب، علامةً على حبّه الأبدي؛ ولكي تجتذب الجميع، فيتصالحوا مع الله، ويتمتعوا بملكوته.
ثانيًا: الصليب هو الوسيلة التي دخل بها ربّنا الحبيب يسوع إلى معركة شرسة مع الموت -عدوّنا الأكبر- وهزمه شرّ هزيمة، وانتصر لحسابنا؛ فداس الموتَ بالموت، ووهب لنا الحياة بقيامته. ومن هنا فقد صار الصليب علامةً للغلبة، وأداةً مُفزِعةً جدًّا للشيطان، لأنّ المسيح سحقه بها.. ولهذا فالصليب هو قوّة لنا وموضع افتخارنا.
هكذا نقول في ذكصولوجيّة (تمجيد) عيد الصليب: الصليب هو سلاحنا، الصليب هو رجاؤنا، الصليب هو ثباتنا، في ضيقاتنا وشدائدنا.
ونقول أيضًا في إبصاليّة (ترنيمة) يوم الجمعة (الذي نصومه أسبوعيًّا إكرامًا للمصلوب): ربّنا يسوع المسيح أعطَى علامة لعبيده الذي يخافونه، لكي يهربوا (ينجوا) من وجه القوس، ويشفوا كلّ مرضٍ، ويُخرِجوا الشياطين، ويسدّوا أفواه الأسود، ويُطفِئوا قوّة النار، ويتسلّطوا على أعدائهم (الشياطين)..
ثالثًا: الصليب هو القوّة التي تُساعدنا على غلبة الميول الشرّيرة، وتُحَرِّرنا منها، كما يؤكِّد القدّيس بولس الرسول أنّ "الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ" (غل5: 24)..
بقبولنا للصليب وحملنا إيّاه ننال قوّة مُحَرِّرة، فلا يتسلّط علينا شيء، ونعيش في الحرّيّة المجيدة التي لأولاد الله..
بالنظر إلى الصليب باستمرار، تموت فينا محبّة العالم وشهواته الرديئة..
عندما نُصلّي أمام المصلوب كلّ يوم في وقت الساعة السادسة، نقول: اقتل أوجاعنا بآلامك المُشفِية المُحيية، وبالمسامير التي سُمِّرتَ بها أنقِذ عقولنا من طياشة الأعمال الهيوليّة (المادّيّة) والشهوات العالميّة..
تُشَجِّعنا أيضًا ترنيمة يوم الجمعة بكلماتٍ جميلة: "طوبى للإنسان الذي يترك عنه هذا العُمر، واهتماماته المملوءة تعبًا القاتلة للنفس (يتحرّر). ويَحمل صليبه يومًا فيومًا (وسيلة التحرُّر) ويَلصِق عقله وقلبه باسم الخلاص الذي لربّنا يسوع المسيح."
من هنا نفهم لماذا أكّد ربّنا يسوع المسيح لنا "إِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا" (يو8: 36)، وأيضًا قال معلّمنا بولس الرسول: "أَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ" (غل6: 14).
فنحن نفتخر بالصليب لأنّ فيه الحُبّ والغلبة والحرّيّة!
القمص يوحنا نصيف
27 سبتمبر 2024م