القمص يوحنا نصيف
ينفرد القدّيس لوقا في إنجيله، بحادثة لقاء الربّ يسوع المسيح مع زكّا في أريحا (لو19: 1-10). والقدّيس كيرلّس الكبير له بعض التعليقات اللطيفة على هذا اللقاء، أقدّم منها في هذا المقال بعض المقتطفات:
كان زكّا رئيسًا للعشّارين، وكان رجلاً مُستَعبَدًا تمامًا للطمع، وكان هدفه الوحيد هو أن يُزيدَ أرباحه، لأنّ هذا ما كان يفعله العشّارون، مع أنّ بولس يدعوه (أي الطمع) عبادة أوثان (كو3: 5). وهذه العبارة تُناسِب فقط أولئك الذين ليست لهم معرفة بالله. وحيث إنّهم بلا خجل يُجاهِرون علانيةً بهذه الرذيلة، فإنّ الربّ قد ألحقَهم -عن صوابٍ جدًّا- بالزواني، عندما قال لرؤساء اليهود: "إنّ الزواني والعشّارين يسبقونكم إلى ملكوت الله" (انظر مت21: 31). أمّا زَكَّا فلم يستمرّ بين صفوفهم، بل حسبه المسيح جديرًا بالرحمة، لأنّه هو الذي يُقَرِّب البعيدين، ويُعطِي نورًا لأولئك الذين في الظلمة.
تعالوا إذن لنرى كيف كانت طريقة اهتداء زكَّا. لقد رغب أن يرى يسوع، ولذلك صعد إلى جمّيزة، وهكذا فإنّ بذرة الخلاص نبتت داخله، والمسيح رأى هذه البذرة بعينيّ لاهوته، قبل أن ينظر إلى فوق ليراه بعينيه البشريّتين. وحيث أنّ قصْدَه بالنسبة لجميع البشر هو أن يخلصوا، فإنّه بَسَطَ لطفه إليه، وشجّعه وقال له: "أسرِع وانزل".
إنّ زكّا طلب أن يراه، ولكنّ الجمع منعه، ولكن لم يكُن سبب المنع هو الناس، بقدر ما كانت خطاياه هي المانع.. ولم يكُن بإمكانه أن يراه بطريقة أخرى إلاّ بأن يرتفع عن الأرض، ويَصعَد إلى الجمّيزة التي كان المسيح مزمِعًا أن يمُرّ بها.
زكّا.. أسرَعَ ونَزَلَ وقبلَ المسيح بفرح، ليس فقط لأنّه رأه كما كان يرغب، بل أيضًا لأنّ المسيح قد دعاه، ولأنّه قبله ليقيم عنده، الأمر الذي لم يكُن يتوقّعه أبدًا.. هو رأى أنّ نفس زكّا كانت مستعدّة جدًّا لأن تختار حياة مقدّسة، ولذلك هداه إلى التقوى. لذلك فإنّ الرجل قبل المسيح بفرح، وكان هذا بداية تحوُّله إلى الصلاح، وتخلّيه عن أخطائه السابقة، وأن يستودع نفسه بشجاعة لطريق أفضل.
الذي أسلَمَ نفسَه للطمع وانشغل بالرّبح، في الحال صار رحيمًا ومُكَرَّسًا لأعمال المحبّة. إنّه يَعِدُ بأن يوزِّع ثروته للمحتاجين، وإنّه سيعوِّض كلّ مَن غَشَّهم، وهذا الذي كان عبدًا للطمع جَعَلَ نفسه فقيرًا، وتوقَّف عن الاهتمام بالأرباح.
ليت جموع اليهود لا يتذمّرون عندما يُخَلِّص المسيح الخطاة، بل ليُجيبونا عن هذا: هل يوجَد لديهم أطبّاء ينجحون في جلب الشفاء حينما يفتقدون المرضى؟ لماذا يلومون المسيح إذن؟ إذ أنّه عندما كان زكّا ساقِطًا ومدفونًا في أمراضٍ روحيّة، أقامه المسيح من حُفَر الهلاك.
+ حيث يدخُل المسيح، فبالضرورة يكون هناك خلاصٌ أيضًا. لذلك ليت المسيح يكون فينا نحن أيضًا، وهو يكون فينا عندما نؤمن، لأنّه يسكن في قلوبنا بالإيمان، ونكون نحن منزلاً له.
كان من الأفضل لليهود أن يبتهجوا لأنّ زكّا خُلُصَ بطريقة مدهشة، لأنّه هو أيضًا حُسِبَ من أبناء إبراهيم الذين وعدهم الله بالخلاص في المسيح، بواسِطة الأنبياء القدّيسين قائلاً: "سوف يأتي مُخَلِّص من صهيون، وينزع الآثام عن يعقوب، وهذا هو عهدي معهم، عندما أحمل خطاياهم" (إش59: 20-21 سبعينيّة)، وليطلُب مَن كانوا مفقودين، وليُخَلِّص مَن قد هلكوا، لأنّ هذا هو عمله، وهذا ثمر لطفِهِ الإلهيّ.
[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 127) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف
* الصور: بقايا الشجرة القديمة التي تسلّقها زكّا - شجرة جميز مماثِلة بجوار الشجرة القديمة - صورة لمدينة أريحا من على جبل التجربة - بيت زكّا الذي صار كنيسة (دير قبطي) من الداخل والخارج.