إعداد الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كاتب وباحث في تاريخ المسيحي والتراث المصري
وعضو إتحاد كتاب مصر
أورشليم الأرضية
الرب هو واضع اساس اورشليم: كما يقول القديس ديديموس الضرير: [هو الرب المخلص الذي يشير إليه زكريا النبي بقوله: "هوذا الرجل الغصن الشرق إسمه، ومن مكانه ينبت ويبنى هيكل الرب" (6: 12 الترجمة السبعينية). إنه النور الحقيقي الذي يتحدث عنه يوحنا المعمدان: "هذا هو الذي قلت عنه أن الذي يأتى بعدي صار قدامي لأنه كان قبلى" (يو 1: 15).
هو باني أورشليم، قد رسم الأساس ووضعه كمهندس معماري. إذ تهدمت أورشليم بواسطة الأعداء الذين حاصروها يقيس طولها وعرضها لكي يضع الأساسات التي تُقام عليها الأسوار في المواضع المناسبة بترتيب وتنسيق. ويكتب القديس بولس الرسول عن هذه المدينة التي كان ينتظرها كل الذين أرضوا الرب بإيمانهم "التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله " (عب 10: 11). كما يقول حزقيال النبي أيضًا: "وإذا برجل منظره كمنظر النحاس وبيده خيط كتان وقصبة القياس وهو واقف بالباب" (حز 40: 3). ]
الله هو حارس اورشليم وراعيها: يطالب الله شعبه مع القيادات أن تدعوه، فهو وحده العارف المستقبل وفي يديه التاريخ، لهاذا يليق بنا الالتجاء إليه وحده. يدعو خدامه لحراسة شعبه بروح الصلاة الدائمة، إذ قيل: "على أسوارك يا أورشليم أقمت حراسًا لا يسكتون كل النهار وكل الليل على الدوام؛ يا ذاكري الرب لا تسكتوا؛ ولا تدعوه يسكت حتى يثبت ويجعل لأورشليم تسبيحة في الأرض" (إش 62: 6-7). ويقول صموئيل النبي: "وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم بل أعلمكم الطريق الصالح المستقيم" (1 صم 12: 23).
إذ يتحدث عن أورشليم كأنشودة فرحٍ، فانه لا يعزلها عن حقولها المحيطة بها ومراعي الغنم الخاصة بسكانها، لذلك يصور الله كراعٍ يهتم بقطيعه العاقل، لا يفلت أحد قط من رعايته.
لعل إرميا النبي كان في أعماقه يردد كلمات داود الملك: "تكلمت بشهاداتك قدام الملوك ولم أخزَ" (مز 119: 46،)
ويعلق الأب أنثيموس أسقف أورشليم على هذه العبارة، قائلاً: [علامة محبة الله... هي أن تتكلم بشهاداته قدام الملوك جهرًا وبشجاعة، كما تكلم الرسل والشهداء... لا نخزى إن كانت أعمالنا وأقوالنا لائقة بملك الملوك المتكلم فينا، وأن نهذ بوصاياه بالمحبة والثقة، لا بضجر أو تهاون.
لا يوجد جزء من جسم الإنسان يحتاج إلى رعاية وعناية مثل العين، وقد وضعها الله في مكان أمين، إذ هى مستريحة بين عظام بارزة كحصن لها، وكأنها بأورشليم التي تحوط بها الجبال من كل جانب، غايتها التمتع بالرؤيا الصادقة لتدير الجسم كله في الوضع السليم، تنذر الجسم بالمخاطر وتكشف له عن الطريق. هكذا يحفظ الله النفس كالعين، يحوطها بكلماته كعظام قوية، أو كجبال الله المقدسة، وإذ تتقدس النفس (البصيرة الداخلية) يسلك الإنسان في طريق الله بلا لوم.
اورشليم مدينة الملك العظيم: فكان على كل القبائل أن تحج الى أورشليم (مز 122:4)، مدينة الله (مز 87:3) وهى مسكن يهوه (عا 1:2) ولكن بما أنّ أورشليم هي مدينة الله، فلا يقدر عدوّ أن يُعدمها الحياة (إش 10:11-12، 32-34؛ 29 :8؛ 31 :4-5). أورشليم التي ستُبنى على حجر زاوية جديدة (إش 28:16، رج 4 :5). حينئذ كل سكانها الذين سُجلوا من أجل الحياة (مز 313:3) يكونون قديسين (إش 4:3). فتُدعى مدينة البر والقلعة الأمينة (اش 1:26). وتصير أورشليم عاصمة روحية لكل البشرية (إش 2 :1-5 مي 4 :1-3؛ مز 87).
وفى هذا يقول الأب أنثيموس الأورشليمي: وأما أثناسيوس الجليل وأوريجينوس وغيرهما فقالوا إن معنى قول النبي هو: إن البرية القفرة لم تمنع شوقي إليك، بل أُصلِّي إليك، وأُسبَّحك فيها كما أُسبِّحك في أورشليم، طالبًا أن أتمتع بحضرتك، وأعاين عجائبك التي تُظهِر قوتك ومجدك.
وأيضا يقول الأب أنثيموس الأورشليمي أساسات أورشليم أسسها الله، والجبال المؤسسة عليها جبال مقدسة، لأن الله القدوس قد أظهر سكناه فيها...* مدينة الله تُقال عن سيرة العبادة المستقيمة التي أساساتها هي التعاليم الإلهية المقدسة. وأما جبالها المقدسة التي عليها قائم بناؤها فهي الرسل والأنبياء، وقبلهم ربنا له المجد كما كتب بولس الرسول في الفصل الثاني للرسالة إلى أهل أفسس: "مبنين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية" (أف: 20).
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن أورشليم مدينة الله التي حملت في داخلها الهيكل وتابوت العهد وتمتعت بالأنبياء ومواعيد الله هلكت خلال القسم الباطل]. وقد جاءت الوصايا العشر تنهي عن القسم الباطل (خر 20: 7)، سمحت بالقسم في العهد القديم علامة إعتزاز الشعب بالإله، وحتى لا يقسم بالآلهة الوثنية، لكنها شددت ألا يكون باطلاً، أما وقد جاء السيد المسيح فنهى عن القسم تمامًا، قائلاً: "ليكن كلامكم نعم نعم لا لا، وما زاد على ذلك فهو شرير" (مت 5: 37).
والمدينة تشير إلى السكنى، فأورشليم المقدسة تشير إلى سكنى الله بين البشر، لذلك دعيت مقدسة. ويمكن أن نقول إن كل نفس أيضًا هي أورشليم مقدسةٌ لأن الله يسكن في داخلها. وبابل العظيمة تشير إلى سكنى "ضد المسيح" بين البشر، لذلك دُعيت "عظيمة" إذ هو عنيف. ويمكن أن يسمح لهذا الضد أن يستخدم أية مدينة سواء كانت هذه بابل فعلاً أو غيرها.
كان مسكن الرب (خيمته) على جبل صهيون في أيام داود، وهو مسكن جديد أعده النبي الملك، وليست الخيمة التي أُستخدمت في البرية وظلت في جبعون. أما الجبل المقدس، أو جبل قدسه، فهو جبل صهيون في أورشليم، رمز لكنيسة العهد الجديد.